العمل والعمال في المفهوم القرآني موضوع خطبة جمعة للشيخ بلال سعيد شعبان لمناسبة الأول من أيار ، ألقيت في مسجد التوبة طرابلس لبنان بتاريخ 2-5-2025م.
العمل في الإسلام: شرف، عبادة، ومسؤولية
العمل في الإسلام ليس مجرّد وسيلة للرزق، بل هو عبادة إذا صلحت النية، وطاعةٌ إذا تحقق الإخلاص. قال النبي ﷺ: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” [رواه البخاري].
لقد شرّف الإسلام العامل، ورفع من قدره، واعتبر الكدّ على النفس والأهل جهادًا في سبيل الله.وقد ورد في القرآن الكريم أمرٌ بالعمل، مصحوب برقابة إلهية لا تغفل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105]. وفي هذه الآية دعوة صريحة للسعي، وتحذير ضمني من الغش أو التقاعس، فالله يرى، والناس تراقب. ولم يكن النبي ﷺ يعطي الصدقة لمن يستطيع العمل، بل كان يحرّضه على الاكتساب، كما في قصة الرجل الذي جاء يسأل، فأمره النبي أن يحتطب، وقال له بعد أيام من العمل: “هذا خيرٌ لك من أن تأتي المسألة نكتة في وجهك” [رواه أبو داود].
الحقوق والواجبات في منظومة العمل:
لقد حفظ الإسلام للعامل حقوقه، فقال النبي ﷺ: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” [رواه ابن ماجه]. فلا يجوز تأخير الأجور، ولا ظلم العامل، ولا تحميله فوق طاقته، كما لا يجوز له التقصير أو الغش، بل يجب عليه الإتقان والإخلاص، لقول النبي ﷺ: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه” [رواه البيهقي].
العمل ليس عبودية، بل شراكة مبنية على العدل والرحمة. قال رسول الله ﷺ: “إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم… فإن كلفتموهم فأعينوهم” [رواه البخاري ومسلم]. وفي هذا توجيه لأرباب العمل أن يعاملوا عمالهم كإخوان، لا كآلات أو أدوات ربح.
الأنبياء قدوة في العمل:
العمل ليس حكرًا على العامة، بل هو سُنّة الأنبياء وصفة الأصفياء.
آدم: كان يزرع الأرض./ نوح: صنع السفينة بيده./ إدريس: أول من خاط الثياب./ إبراهيم: كان تاجرًا وبنّاءً. / موسى: عمل راعيًا./ داوود: كان حدّادًا. / سليمان: ملك وعامل بالحكم. / محمد ﷺ: رعى الغنم، وتاجر بيده، وكان يُعرف بالأمين.
العلماء أيضًا عملوا:
أبو حنيفة: تاجر ثياب. / مالك: عاش من ماله الحلال، ورفض القضاء تورعًا. / الشافعي: رامٍ ماهر، عمل في القضاء والعلم. / أحمد بن حنبل: عاش على نسخ الكتب، ورفض العطاء من الحكّام. /
حتى الخلفاء الراشدون عملوا:
أبو بكر: تاجرٌ معروف. / عمر: تاجر وراعٍ. / عثمان: تاجر كبير أنفق ماله في الإسلام. / علي: زرّاعٌ يحفر الآبار ويغرس النخيل.
العمل عبادة، والتكفف مذلة:
قال الفاروق عمر:”لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة”.
وقال النبي ﷺ:
“لأن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس” [رواه البخاري].
في الختام: إن العمل في الإسلام ليس خيارًا، بل واجبًا أخلاقيًا ودينيًا، يُربّي النفس على الاعتماد، ويغرس في المجتمع معاني العز والكرامة.
فلنُحيِ قيمة العمل، ولنكرّم العامل، ولنتقِ الله في حقوق الناس وأماناتهم.
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]المسؤولية والعدالة بين اختيار القائد والعامل: أمانة وليست مجاملة
في ميزان الإسلام، لا تُقاس المناصب بالمكانة الاجتماعية أو العلاقات الشخصية، بل هي أمانة عظيمة ومحاسبة دقيقة أمام الله. فالقيادة تكليف وليست تشريفًا، ولا مجال فيها للمحاباة أو المجاملة، إذ قال رسول الله ﷺ: “من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولّى رجلاً، وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين” (رواه الحاكم).
وفي حديث آخر يؤكد هذه المعاني الجليلة: “من ولّي أحدًا أمراً وفي الناس من هو خير منه، فقد خان الله” (رواه الطبراني). وتتجلى خطورة الأمر فيما قاله النبي ﷺ لأبي ذر رضي الله عنه: “يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة” (رواه مسلم). إنها كلماتٌ تقطع الطريق على أي تهاون أو عبث بمواقع المسؤولية، لأن الله تعالى يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
ومع هذه الأمانة، يأتي جانب العدالة الاجتماعية، خصوصًا في العلاقة بين أصحاب السلطة والعمال. فمنذ بدء الثورة الصناعية في عام 1856م، تعرّض العمال لظروف قاسية، حيث كانت ساعات العمل تمتد لـ12 ساعة يوميًا بلا ضمانات أو حقوق، مما أدى إلى انتفاضة العمال في شيكاغو عام 1886م، والتي سقط فيها مئات الشهداء مطالبين بثماني ساعات عمل فقط. لكن الإسلام سبق كل تلك الثورات، حين قال رسول الله ﷺ: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” (رواه ابن ماجه)، واضعًا بذلك قاعدة ذهبية في الإنصاف والكرامة الإنسانية.
ومن فقه العدالة في الإسلام: لا يجوز لرب العمل أن يحمّل العامل فوق طاقته. ولا أن يُظلم في أجره أو وقته أو كرامته. ويجب أن تكون الأجور عادلة، بعيدة عن البخل والاستغلال، كما يقال: “على قدّ المصريات”.
وتحمل الحكمة الشعبية “زيوان بلادي ولا قمح الغريب” معاني عميقة في حب الوطن ورفض الاستعباد، فالكرامة في أرضك خير من الذل في غيرها.
وفي الختام: يذكّرنا رسول الله ﷺ بمسؤولية كل من وُلِّي أمرًا من أمور الناس: “كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته”، محذرًا: “ما من عبدٍ استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة” (رواه البخاري).
يا من وُلّيتم على الناس، تذكّروا أن الأمانة ثقيلة، وأن المسؤولية أمام الله أعظم من أي منصب، فكونوا على قدرها.