نقلًا عن صحيفة الأخبار
أطلق وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، جملة مواقف في الشأن الخارجي، انقلب فيها على ثوابت بدت، لوهلةٍ، أنها لا تتبدّل، من مِثل الموقف من إيران التي بنى سياسته استناداً إلى عدائها. لكن ثمّة تغييرات تبدّت منذ تسريب اللقاء بين الجانبين في بغداد بداية الشهر الجاري، انتقالاً إلى إعلان ابن سلمان نيّته تحسين العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، جنباً إلى جنب رغبته في إنهاء الحرب في اليمن. أما الداخل الذي ينتظر تحقُّق نبوءات 2030، يومَ تسلك رؤيته الإصلاحية طريق النجاح، فوعده برؤية مؤجّلة في 2040 ستكون مرحلة منافسة عالمية!
حملت مقابلة محمد بن سلمان، مساء أوّل من أمس، تراجعاً واضحاً عن مواقفَ كان وليّ العهد السعودي قد بنى عليها سياسته لدى تولّيه منصبه، وخصوصاً في ما يتعلّق باليمن وبإيران، فيما غاب كلياً أيُّ ذكر لإسرائيل ولتركيا ولقطر. وفي الشأن الداخلي، ولا سيما تأثيرات «رؤية 2030» على الشقّ الاقتصادي، برزت تناقضات كثيرة بين ما قاله وما يفعله، توازياً مع استخدامه سلاح الهروب إلى المستقبل. وعلى رغم أن المقابلة التي أجراها معه مقدِّم برنامج «الليوان» على التلفزيون الرسمي السعودي، عبد الله المديفر، جاءت لمناسبة مرور خمس سنوات على إطلاق «2030»، بدا ابن سلمان خالياً من أيّ إنجازٍ في إطار رؤيته الطموحة، لينتقل إلى التحدّث عمّا ستحمُله «رؤية 2040»!
الموقف من الخارج
بدا أن ابن سلمان يستجدي «أنصار الله» وقفَ إطلاق الصواريخ والمسيّرات في العمق السعودي. وإذ أعرب عن الأمل في أن «يجلس الحوثيون إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى حلول تكفل حقوق جميع اليمنيين وتضمن مصالح دول المنطقة»، أكد أن بلاده «لا تقبل وجودَ تنظيم مسلَّح خارج عن القانون على حدودها… العرض المقدَّم من السعودية هو وقف إطلاق النار والدعم الاقتصادي وكل اللي تريدون مقابل وقف إطلاق النار من قِبَل الحوثي والجلوس إلى طاولة المفاوضات».
وتتناقض هذه اللهجة بشكل كامل مع تلك التي اعتمدها ولي العهد السعودي عند بدء الحرب، حين تعهّد باجتثاث «أنصار الله» خلال أسبوعين. كما أن لغة الخطاب التي توجّه بها إلى زعيم الحركة، عبد الملك الحوثي، بدت مختلفة، إذ قال: «لا شكّ في أن الحوثي له علاقة قويّة بالنظام الإيراني، لكنه في الأخير يمني ولديه نزعة عروبية (…) أتمنّى أن تحيا فيه بشكل أكبر ليراعي مصالحه ومصالح وطنه قبل أيّ شيء آخر».
وفي ما يتعلّق بإيران، انقلبت لهجة ولي العهد عمّا أدلى به في مقابلته مع داوود الشريان عام 2017، حين قال إنه «لا يمكن إجراء حوار مع إيران». ففي المقابلة الجديدة، أوضح، ردّاً على سؤال حول إذا ما كان ثمّة عمل جارٍ على تسوية القضايا العالقة بين الطرفين: «بالأخير، إيران دولة جارة، ونريد أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميّزة معها… لا نريد أن يكون وضع إيران صعباً. بالعكس، نريد إيران مزدهرة. لدينا مصالح فيها ولديها مصالح في السعودية لدفع العالم والمنطقة إلى الازدهار». لكن «إشكاليتنا هي تصرّفات إيران السلبية التي تقوم بها، سواء عبر برنامجها النووي، أو دعمها للميليشيات الخارجة عن القانون في بعض دول المنطقة، أو برنامجها للصواريخ البالستية».
الوضع الداخلي
تطرّق ابن سلمان إلى مسألة التديُّن في المملكة، ليُجدِّد هجومه على «التطرّف»، معتبراً «أيّ شخص يتبنّى منهجاً متطرّفاً، حتى لو لم يكن إرهابياً، فهو مجرم». ودعا إلى الاجتهاد وعدم الاعتماد على النصوص الدينية غير الواضحة، قائلاً: «في الشأن الاجتماعي والشخصي، لا عقوبة إلّا بنص واضح في القرآن أو بالحديث المتواتر… الحكومة في الأمور الشرعية تنظر في حديث الآحاد ولا تنظر إلى الخبر إلّا في حالات خاصة» (والمقصود بحديث الآحاد هو الحديث النبوي المنقول عن فرد واحد أو أكثر، ولكن غير المتواتر). واعتبر معارضون أن الإشارة إلى حديث الآحاد هدفها توسيع هامش تفسير الشريعة لدى ابن سلمان في القمع، بالاعتماد على أحاديث مشكوك في صحّتها. وعن مؤسّس الوهابية، محمد بن عبد الوهاب، قال ابن سلمان: «متى ما ألزمنا أنفسنا بمدرسة معيّنة أو بعالِم معيّن، فهذا يعني أننا ألّهنا البشر. الشيخ محمد بن عبد الوهاب لو خرج من قبره ووجدَنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا على الاجتهاد ونؤلّهه أو نضخّمه، لعَارض هذا الشيء، فلا توجد مدرسة ثابتة ولا يوجد شخص ثابت، القرآن والاجتهاد مستمران… وكلّ فتاوى بحسب كلّ زمان ومكان».
وفي غياب أيّ إنجاز خاص بـ»رؤية 2030»، في ظلّ العزوف الدولي عن الاستثمار في المملكة، خصوصاً بعد اغتيال جمال خاشقجي، قال ابن سلمان: «نقترب من تحقيق عدد من أهداف الرؤية قبل 2030، وقد حدثت خطوات حيوية في المملكة منذ عام 2015 من خلال إعادة هيكلة وزارات وتأسيس مجالس جديدة، ونحن الآن على وشك الانتهاء من تأسيس مكتب السياسات في الدولة». كذلك، كشف أن «صندوق الاستثمارات العامة» (الصندوق السيادي) يستهدف النمو ليصبح صندوقاً ضخماً، وبالتالي لن يُحوّل أرباحه في الوقت الحالي إلى موازنة الدولة، «وسيستهدف زيادة نمو حجم الصندوق بأكثر من 200% في السنوات الخمس المقبلة، على أن لا تتجاوز المصروفات في المستقبل نسبة 2.5%، وسيكون بمثابة نفط جديد للمملكة». لكن خبراء اقتصاد تساءلوا عن المكان الذي ستأتي منه هذه الزيادة، إذا كان عجز الموازنة السعودية في سنة 2020 وحدها بلغ 79 مليار دولار، بحسب أرقام وزارة المالية السعودية التي كانت توقّعت عجزاً قدْره 50 مليار دولار.
وقبل أن يظهر شيء من «رؤية 2030» على أرض الواقع، أجاب ابن سلمان ردّاً على سؤال «ماذا بعد رؤية 2030؟»، بأن «رؤية 2030 تضعنا في موقع متقدِّم جداً، لكن رؤية 2040 ستكون مرحلة منافسة عالمية». وفي هذا الإطار، استعرض أرقاماً اقتصادية، أبرزها تصاعد مؤشّر سوق الأسهم السعودية «تداول»، من مستويات 6 و7 آلاف نقطة قبل الرؤية، إلى أكثر من 10 آلاف نقطة في الوقت الحالي، علماً بأن الارتفاع لم يقتصر على السعودية، بل شمل أسواق الخليج كلّها، بفعل ارتفاع أسعار النفط وانطلاق حملات التلقيح. وفي ما يتّصل بالبطالة، أشار إلى أنها كانت – قبل الرؤية – تبلغ 14%، «لكننا نستهدف خفضها إلى 11% في العام الحالي». لكن قراءة سريعة لأرقام «الهيئة السعودية للإحصاء» الصادرة في آذار/ مارس الماضي، تبيّن عدم وجود أيّ شفافية في تعامل المملكة مع أرقام البطالة. فقد أظهرت تلك الأرقام انخفاض معدّل البطالة الإجمالي بين السعوديين، حيث بلغ 12.6% في الربع الرابع من عام 2020، مقارنةً بـ 14.9% خلال الربع الثالث من العام ذاته.
وظهرت حاجة السعودية إلى «الكاش»، في إعلان ابن سلمان نيّته بيع 1% إضافية من شركة «أرامكو» لمستثمرين دوليين خلال عام أو عامين. وهي حصّة قدّرت وكالة «بلومبرغ» قيمتها بنحو 19 مليار دولار، بناءً على القيمة السوقية للشركة. ويمثّل الإعلان تناقضاً مع ما سبق أن قاله ابن سلمان وأعاده في هذه المقابلة، حول أن «رؤية 2030» ستؤدّي إلى تنويع الاقتصاد وخفض اعتماده على النفط؛ إذ قال ولي العهد إن «النفط خدم السعودية، والمملكة دولة قائمة قبل النفط، الذي لا يزال يشكّل جزءاً أساسياً من الدخل، ثم جاءت رؤية 2030 من أجل تحقيق الطموح الأكبر في اقتصاد أكثر قوّة وحياة أفضل للسعوديين، عبر تعزيز الاقتصاد بصناديق واستثمارات ستُشكّل رافداً مستقبلياً للاقتصاد». من جهة أخرى، نفى وجود أيّ توجّه لفرض ضرائب على الداخل في المملكة، لافتاً إلى أن «الحدّ الأقصى لفرض ضريبة القيمة المضافة هو 15% لمدة 5 سنوات، وهو قرار موقّت، كما أنه يأتي في سياق خليجي عام».