بقلم الشيخ ماهر حمود نقلاً عن جريدة الأخبار اللبنانية
أتوجّه إلى الرئيس الجميل بعد قراءة مذكّراته المعنونة «الرئاسة المقاومة»، بالسؤال: هل تنفع الكتابة؟ بمعنى إن كانت التجربة التي تؤرّخ لها، فخامتك، والتي تمتدّ لأكثر من أربعين عاماً مليئة بالأحداث، مضمخة بالدماء، مثقلة بالعناء وكيد الأعداء وخيانة الأصدقاء وغدر الحلفاء، إن كانت كلّ هذه السنوات بكلّ ما فيها من دروس وعبر لم تدفعك إلى قول الحقيقة كاملة، ولم تجعلْك تنطق بالموعظة التي نطقت بها هذه الأحداث، فهل ستنفع كتابتي المتواضعة؟
لا أظنُّها ستنفع، ولكن لا بدّ من تسجيل رأيٍ حازم نؤكّد فيه باليقين، أنّ ما عشته وعشناه يدفعك إلى استنتاجات واضحة ما كان ينبغي فيها التردّد، ولا ينفع فيها بالتأكيد نصف الرأي وبالتأكيد تدعمها آلاف الحقائق الدامغة، وعلى الأقل كما قال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
إنّ ما ينبغي أن يُستنتج يلخّص بما يلي:
أولاً: إسرائيل العدو الرئيسي للبنان وخاصة للمسيحيين، وعلى الأخص للموارنة الذين استعملتهم غطاء وتبريراً لعنصريتها وعدوانها.
ثانياً: مهما بلغت أخطاء سوريا وخطاياها والتي قد نضيف إلى ما قلته عنها أضعافاً مضاعفة، ولكنّها تبقى هي التي حافظت على وحدة لبنان ووحدة جيشه ومؤسّساته ومنعته من الانزلاق إلى الذوبان من خلال التبعية للعدو الصهيوني ومخطّطاته الجهنّمية. وقد ثبت أنّ أخطاء سوريا وخطاياها تبقى ضمن التكتيك أو السياسات الصغرى، أما الاستراتيجيات أو السياسات الكبرى فقد أثبتت أنها أذكى من الجميع، وأقدر من الجميع على المحافظة على المبادئ الكبرى، والدليل أنها لم توقّع اتفاقاً مع إسرائيل ولم تخضع للسياسات الأميركية ولم تسلّم قيادتها لأحد، ولكن لأي إنسان مخلص أن يسأل: هل الخطايا المشار إليها لا تجرح الاستراتيجية الكبرى؟ أترك الجواب للتاريخ.
ثالثاً: المسلمون شركاؤك في الوطن شئت أم أبيت، كما هم لا كما تحب وترغب، بأخطائهم وتدينهم أو علمانيّتهم، لن يقوم لبنان إلّا بجناحيه بغض النظر عن الأقلية والأكثرية.
رابعاً: لبنان جزء من العالم العربي بالتأكيد، ولأنّه يتمتّع بالحرية والتنوع فإنّه مؤهّل لإصلاح الأوضاع العربية إذا انحرف العرب نحو الخطيئة الكبرى ـــــ الاستسلام للمشروع الصهيوني، ولا يجوز أن نتنصّل من العروبة ونحاربها عندما تكون عروبة المقاومة والوحدة ونتزلّف إليها عندما تصبح عروبة التطبيع والذل والعار والانتفاع المالي والاقتصادي.
خامساً: لن تكون أميركا والغرب كلّه أحرص من شركائك في الوطن على مصلحتك وأمنك ومستقبلك، والغدر الأميركي، أو بالحد الأدنى عدم الاكتراث والإهمال للأزمة اللبنانية لا يجوز أن يكون مفاجئاً لأحد، طالما أنّ اللوبي الصهيوني هو المؤثّر الرئيسي في القرار الأميركي.
سادساً: وكذلك فرنسا لن تبقى الأم الحنون ولعلّ كلمة وزير الخارجية الفرنسي الأخيرة تعبّر بشكل كافٍ: ساعدوا أنفسكم لنساعدكم.
سابعاً: نرضى بالوجه العربي للبنان كحدّ أدنى وفق تعبير الميثاق الوطني عام 1943، ونفخر بالثقافة اللبنانية المتميّزة التي تستفيد من الثقافات الغربية المتعدّدة، ولكنّ الثقافة الغربية التي أفلحت في التكنولوجيا وفي كثير من القوانين والتشريعات المعاصرة، لم تفلح في العلاقات الإنسانية والحفاظ على العائلة، وتبقى الثقافة الشرقيّة متفوّقة في مجالات متعدّدة، فلا تبعية في الثقافة ولكن استفادة بوعي وحذر.
ثامناً: ما كنت أتمنّى أن تكون مذكّراتك كمذكّرات شاعر أو كاتب حالم، وإن كان هذا الجانب العاطفي والشاعري في شخصية فخامتك موضع احترام وتقدير، ولكن لن يكون وداع شجرة الميموزا مثلاً في قصر بعبدا أهم من بعض التفاصيل التي تمّ إغفالها. مذكّرات رئيس يجب أن تكون مليئة بالعبَر والمواعظ ليُبنى من خلالها وطن جديد، وليس فقط لنبكي على الأطلال وكأننا فقدنا حبيباً أو تركنا منزلاً في صحراء.
تاسعاً: لن يصبح «التعامل» مع إسرائيل بأيّ شكل من الأشكال، ولا بأيّ مقياس من المقاييس، مساوياً لـ«التعامل» مع الفلسطينيين أو السوريين أو الإيرانيين، أو غيرهم من العرب والمسلمين. لا يصحّ أن يستوي هذا مع ذاك، لا في النية ولا في الهدف ولا في الأضرار ولا في أي احتمال من الاحتمالات، ولا بأس أن نحكّم في ذلك الكتاب المقدّس والتاريخ والجغرافيا والأنتروبولوجيا، والتجربة القديمة والحديثة، وكلّ المقدّسات والقيم التي يعتمد عليها البشر.
عاشراً: ليست هذه الأوراق مخصّصة لمناقشة فكرة ولاية الفقيه والتي لا يمكن أن تسمى تبعية على الإطلاق. وعلى كل حال ليس ثمة من هو مبرّأ من الأخطاء، وهذا الموضوع يحتاج إلى حوار مطوّل في مكان آخر.
بعد هذه المقدمة، أقول:
قرأت مذكّرات الرئيس أمين الجميّل باهتمام بالغ، وذلك بعد نصيحة من الصديق الصحافي قاسم قصير، الذي أرسل لي مقطعاً قصيراً مصوّراً عن تعليقه على هذا الكتاب، خلال حفل التوقيع في بكفيا. سررت لدعوته إلى بكفيا ولكلامه هناك، وسألته فقال: «الكتاب فيه وثائق مهمّة وباعتبارك عشت هذه التجربة عن كثب فإنه سيكون من المفيد أن تقرأه وأن تعلّق عليه». وهكذا كان… والواقع أنني وأنا في التاسعة والعشرين من العمر تقريباً، أي عند انتخاب الرئيس أمين الجميّل رئيساً، بدأت أشعر كأنّ الرئيس أمين الجميّل خصمي الشخصي، ليس فقط خصم المجتمع الذي أنتمي إليه، فيما كنت أشعر كما الكثيرين بأن بشير الجميّل كان عدوي الشخصي، وليس مجرد خصم، فهو الذي قتلني على الهوية، وهو الذي أتى بالاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي أراد أن يبني لبنان على أنقاض كلّ ما هو شريف وثمين في هذا الوطن. أمّا أمين الجميّل فكما رحّب العرب به بعد اغتيال بشير، كان مرحَّباً به، وارتدى صورة رجل الانفتاح والحوار، ومن أجل ذلك حاز 77 صوتاً بكلّ سهولة، ومن أجل ذلك خفتت أصواتنا كمعارضين، لفترة قصيرة نسبياً، فيما كانت مرتفعة مدوية لدى انتخاب بشير (مدوية في حدود مجتمع مدينة صيدا وما حولها وقتها). ولكن للأسف، إنّ أداءه سبّب خيبات كبيرة، وكان يمكنه أن يتلافاها لو كان يتمتّع بالحزم والشجاعة الواجبة في اللحظات التاريخية التي عاشها وعشناها معه، ولا بدّ من ملاحظات رئيسية:
أولاً: أهم ما في الكتاب
إنّ أهم ما في الكتاب بالتأكيد، هو الحوار الذي دار بين الجنرال الإسرائيلي (إينان) عضو الوفد الإسرائيلي للمفاوضات، وقد طفح كيله (حسب تعبير فخامتك)، فصاح: سوف أعلّم أولادي فنّ التفاوض كي يحلّوا مكاني، كناية عن الوقت الطويل الذي استغرقته هذه المفاوضات فضلاً عن صعوبتها، فردّ عليه نظيره اللبناني العميد (عباس حمدان): وأنا سأعلّم أولادي فنّ المقاومة وسنرى من سينتصر. ثم عقبت بكلام واضح: أثبتت الأحداث أنّ حمدان على حق (ص123). كلمات مدوية، تستحقّ أن تكون عنواناً للكتاب، تستحق أن تضعها مثلاً في صفحة خاصة في أول الكتاب وبالخط العريض، ولكنّها مرّت هكذا بثلاثة أسطر ضمن الكتاب يكاد لا ينتبه لها القارئ، لماذا يا فخامة الرئيس؟ لماذا الواحد منّا عدو نفسه وأهله ووطنه عندما يحكِّم الغريزة أو التعصب الطائفي أو الحزبي؟ لماذا تُغفل الحقائق وتُطمس الوقائع؟ أقول هذا لأنك في آخر الكتاب، وبكل استخفاف في الصفحة (393)، قلت: «انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، فسادَ البلاد بأسرها جوّ من الأمل فقدت مقاومة حزب الله مبرر وجودها وسلاحها»، الله أكبر، هذا الذي تستحقّه منك المقاومة فقط؟ ثلاثة أسطر على لسان عباس حمدان، وسطر ونصف عن فقدان المبرّر للمقاومة. 22 عاماً من المقاومة الباسلة، آلاف الشهداء، جهود لا يمكن إحصاؤها، إشاعات، أكاذيب ومؤامرات داخلية وخارجية لم تخفّف من اندفاعها، العالم كله يمتدحها ويتعلّم منها، الأمين العام للأمم المتحدة يزور الأمين العام لحزب الله في الضاحية الجنوبية مهنّئاً ومعتذراً، فلقد كان العالم كلّه يتمنّى أن تقع مجازر في القرى المارونية، في قرية سعد حداد مثلاً القليعة، علما الشعب، في إبل وعين إبل ودبل وغيرها، ضربة كف لم تحصل، منزل سعد حدّاد لم يمسّه أحد، لم يتعرّض أحد لعائلات العملاء الذين هتكوا الأعراض وسفكوا الدماء وخانوا العهود والمواثيق… إلخ. كلّ ذلك لا يستحق منك كلمة تقدير واحدة؟ فقدت المقاومة مبرّر وجودها؟ الله أكبر، نعم الله أكبر، لأنّه لا منجى من هذا التزوير وهذا الإنكار، إلا الالتجاء إلى الله الذي يعلم السرائر ويعامل الناس بأعمالهم ــــــ إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين ـــــــ القرآن الكريم، نعم يا فخامة الرئيس لقد كانت صدمة لي هذه المفارقة بين هذه الأسطر القليلة، ولكن كما قال الشاعر:
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
ثانياً: اتفاق 17 أيار
وصلت إليك الرسالة الجانبية من الإسرائيليين قبيل توقيع اتفاق 17 أيار المشؤوم، والتي استنتجت من خلالها أنّهم لا يريدون هذا الاتفاق، وأخبرك من أخبرك أن الإسرائيليين أوصلوا الاتفاق إلى هذه النقطة ليس عن قناعة، بل ليتلافوا العقوبات الأميركية، بسبب أنّ شارون قد تجاوز الاتفاق ووصل إلى بيروت، متجاوزاً نهر الأوَلي كما كان متفقاً عليه. وبالتالي، لم يكونوا يريدون هذا الاتفاق، فماذا لو أنّك في لحظتها أعلنت إلغاء الاتفاق وواجهت جمهورك
بهذه الحقيقة، بل الحقائق التي بين يديك، كم كنت وفّرت على الوطن وأهله؟ ستقول فخامتك، بل كان سيكون هذا ذريعة لبقاء الاحتلال، وهل توقيع الاتفاق ليس احتلالاً وذُلّاً؟ أو أنّ الذي حصل كان أفضل؟ لو أنّك فعلت هذا، كنت ستكون بطلاً في كلّ المقاييس والمعايير.
تسعة أشهر من القصف والقتل والدمار، من 17 أيار 1983 حتى 6 شباط 1984، الموعد الحقيقي لسقوط هذا الاتفاق، وما تخلّل ذلك من معارك في بيروت الغربية والشحار الغربي وبحمدون وقرى الجبل، وشقّ طريق الكرامة وقصف الضاحية قصف الدمار بما يشبه الإبادة، وإعادة خطوط التماس وتبادل القصف… بالتأكيد، إنّ الوضع كان سيكون أفضل بكثير لو أنّك أعلنت إلغاء هذا الاتفاق من جانب واحد بخطوة بطولية جريئة، ونحن هنا لا نتحدّث عن موجبات البدء بهذه المفاوضات، نتحدث انطلاقاً ممّا ذكرته في كتابك، وليس من موقعنا الرافض أصلاً للمفاوضات.
ثالثاً: بيروت الكبرى
بيروت الكبرى التي اعتبرتَ أنها إنجاز، كيف؟ وقد مهّدت لها بالدماء والقمع، بالخطف باختفاء بعض الفلسطينيين في منطقة صبرا وشاتيلا، من دون أن نعلم لهم مصير بعد ذلك. وماذا عن الاغتيالات؟ من قتل الشيخ حليم تقي الدين؟ من وضع المتفجّرة لوليد جنبلاط في القنطاري؟ من وزّع السيارات المفخّخة في بيروت الغربية؟ من حاول اغتيال الشيخ عبد الحفيظ قاسم من خلال متفجّرة (كراج حبوب)؟ هذا غيض من فيض ممّا رافق أو كان نتيجة مشروع بيروت الكبرى، ثمّ هل يحقّ لمؤرّخ برتبة رئيس جمهورية مدعماً بالوثائق المؤرشفة، أن يتجاوز الحديث عن صلاة العيد في الملعب البلدي بتاريخ 11/07/1983 بإمامة الشهيد الشيخ حسن خالد، حيث كانت الجملة الأهم: «لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان». هذه الجملة كانت شعار هذه الصلاة الجامعة، التي ضمّت خمسين ألف مصلٍّ في الطريق الجديدة بحسب جريدة «السفير». أمّا جريدة «النهار» والتي كانت إلى جانبك وقتها، فأتت بالخبر في الصفحات الداخلية وبأسطر معدودة، بينما كان الخبر في جريدة «السفير» على عرض الصفحة الأولى تحت عنوان «خمسون ألفاً كبّروا لخطبة المفتي». هذه الجملة الأهم في هذا الحشد التاريخي، كانت من اقتراح الرئيس سليم الحص شفاه الله وعافاه، وكانت الكلمة المفتاح التي كبر لها الجميع. كيف يمكن إغفال هذا الموقف الشعبي (السنّي) العارم ضد إجراءاتك البوليسية القاسية التي كانت تهدف إلى بيروت الكبرى على حساب الوطن، وعلى حساب كلّ المبادئ المحترمة وأين سيمون قسيس من كل هذا؟ وهنا، لي بعض المشاعر الشخصية بعد هذه الصلاة التاريخية: إذ إنني خرجت على رأس تظاهرة من الملعب البلدي إلى مقابر مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان العيد الأول الذي يمرّ على هؤلاء الشهداء الأبرياء ــــــ عنوان التكامل بين الصهيونية وبعض المتصهينين المسيحيين، ولا نتّهم كلّ المسيحيين بالتأكيد ولا كل الموارنة حتماً ــــــ هناك ألقيت كلمة نارية، وأنا على الأكتاف أو على منبر حجر من الأرض، وكانت سيارة جيب عسكرية (ويليس) تقف على بعد أمتار قليلة علناً وليست مستترة، وأحد الجنود ينقل خطابي كلمة كلمة لرؤسائه. خُيّل إليّ أني أخاطبك مباشرة، وأنّ الجندي ينقل كلامي وهو يقول الزبون يقول كذا… الزبون يقول كذا… خُيّل إليّ أنّه ينقل الكلام إليك شخصياً في القصر الجمهوري المطل على المكان الذي نحن فيه، ولا يتكلّم مع وزارة الدفاع، ذلك لاهتمامك بالتفاصيل في بعض الأحيان، هناك شعرت أنك خصمي المباشر، من دون أن يكون ثمة لقاء أو مواجهة مباشرة مع فخامتك.
إذن، إسمح لنا فخامة الرئيس، لا يحقّ لك أن تفخر بمشروع بيروت الكبرى وهو لم يكن يوماً إلّا جزءاً من المشاريع الفاشلة المضرّجة بالدماء المثقلة بالظلم التي ارتبط اسمك باسمها، وللأسف الشديد.
ولا بدّ من تتمّة لما حصل في الفترة التي كانت تمهّد لمشروع بيروت الكبرى: ذلك أنّ بوّاب بناية اسمه أحمد فهدا من بلدة مركبا الجنوبية، كان يعمل لدى الوزير الراحل ميشال إده في منطقة القنطاري، شاهد على ما يبدو الذين حضّروا للانفجار الذي استهدف وليد جنبلاط وقتها، في 02/12/1982، لم يُصَب في الانفجار، ولكنّه اختفى تماماً بعد الانفجار ولم يُعلم عنه شيء حتى الآن… بعد مرور هذا الوقت، ليس هنالك من يخبر أبناءه وأحفاده ما الذي جرى له وكيف اختفى ولماذا؟
وطالما أنّ الحديث عن الشهيد المفتي حسن خالد رحمه الله، فلا بدّ أن نذكر أننا كنّا عنده في بيته المؤقت في الروشة، في ظلام دامس في المنطقة، وانقطاع للاتصالات وأجواء من التوتر… وكان قد سكن هذا المنزل مؤقتاً، حتى لا يضطر إلى اجتياز الحاجز الإسرائيلي خلال ذهابه وإيابه إلى دارته في عرمون. خلال وجودنا، جاء درّاج من القصر الجمهوري (باعتبار انقطاع الاتصالات)، وسلم سماحته رسالة صغيرة من فخامتك: اقتراح قمة روحية لبنانية لاستنكار «مجزرة بمريم»، فاستشارنا، وكان جوابنا جميعاً: «لماذا قمة من أجل «مجزرة بمريم»، (2 أيلول 1983)؟ ألم تحصل هنالك مجازر أخرى، ماذا عن صبرا وشاتيلا (وفيهم لبنانيون كثر)، ماذا عن تلّ الزعتر، وعن ضحايا القصف العشوائي…؟ فكان جوابه: «هذه حديثة، وتلك قد مرّ عليها وقت طويل»، وأمسك القلم ووقّع الموافقة، ثم قال بعد توجيه انتقادنا لفخامتك: هذا أفضل رئيس جمهورية حتى الآن… واضح، كأن ذلك في الفترة التي تبنّت فيها سوريا هذا الشعار.
رابعاً: تحرير صيدا
لقد كانت زيارتك إلى صيدا، يوم الأحد 17 شباط 1985، إثر الانسحاب الإسرائيلي مباشرة، ونحن لا نزال في بيروت، سبقتنا إلى مدينتنا، باعتبار أنّ الصهاينة أعلنوا يومي السبت والأحد منع تجول. لقد كانت زيارتك إلى صيدا عنواناً لشخصيتك الملتبسة، حيث هبطتَ بالمروحية في ثكنة صيدا وانتقلتَ مع الوفد المرافق إلى سرايا صيدا القريبة، بسيارات مدنية تم إيقافها عند طرَفي الطريق بتدبير أمني مميّز لتتم الاستفادة من عنصر المفاجأة. كانت الفعاليات قد جُمعت لك في السرايا، وبينهم المطران أغناطيوس رعد، مطران الروم الكاثوليك، الذي كان قد تعامل علناً مع العدو الإسرائيلي، فثار لذلك مفتي صيدا والجنوب الشيخ سليم جلال الدين رحمه الله، في وقفة تاريخية، رافضاً أن يشارك في الاجتماع ـــــ عميل ـــــ ولو أنه كان يحمل لقباً دينياً، فوقف غاضباً، وقلّما كان يغضب، مردّداً بيت أحمد شوقي المشهور:
وللحرية الحمراء باب
بكلّ يد مضرجة يدق
فتمّ إخراج المطران، ولكن مَن الذي دعاه ومن المسؤول عن هذا الخطأ الجسيم؟ وليس هذا هو الأهم، إنك بكلمتك المقتضبة زوّرتَ التاريخ، واستخففت بعقول الناس، فقلت إنّ هذه الأرض حرّرتها المقاومة اللِبنانية، هكذا بكسر اللام، وهذا التعبير كان يعني وقتها «القوات» اللبنانية، ولم يكن يعني المقاومة التي واجهت إسرائيل وانتصرت. كان فقط المطلوب منك أن تضمّ حرف اللام على الأقل، أو أن تقول المقاومة الوطنية اللبنانية، إن كان يصعب عليك أن تقول المقاومة الإسلامية. وكنت تستطيع أن تقول إنها مقاومة أهلنا وشعبنا أو أهل الجنوب، أو أي كلمة أخرى، ولكن كان تعبيرك صدمة قاسية للمقاومة والمقاومين ولأهلنا في صيدا الذين قدموا شهداء كثراً.
هذه الزيارة، وهذه الكلمة، ستبقى عنواناً لشخصيّتك التي فاقمت الأزمات اللبنانية في عهدك. لا تظن يا صاحب الفخامة أنّك بكلمة أو بزيارة أو بلفتة دبلوماسية أو بهدية رمزية، تستطيع أن تغيّر وقائع دامغة، وهذا جزء رئيسي ممّا فعلت خلال السنوات الست القاسية، التي كنت فيها رئيساً.
وحتى تكتمل الصورة، نقول إنّ البعض برّروا للمطران رعد «عمالته»، بأنها كانت ردة فعل على مجزرة كفرنبرخ ــــــ الشوف، التي ذهب ضحيّتها كثيرٌ من أقاربه… وليس هذا تبريراً مقبولاً بالتأكيد، ولكن الواقع يقول إنّه استقال بعد ذلك من منصبه وهاجر إلى كندا ومات هناك. ولعلّ الكنيسة قد طلبت منه الاستقالة على الأرجح، لأنّ دوره كان محرجاً لها، ولا ينسجم أبداً مع دوره كمطران وكرجل دين.
خامساً: سمير جعجع؟
نسأل مرّة أخرى، هل يحقّ لرئيس جمهورية ورئيس حزب أن تكون مقاربته للأمور شخصية أو ذاتية؟
لقد كان انتقادك لـ«القوات» اللبنانية، ولسمير جعجع، انتقاداً خجولاً ضعيفاً في مراحل الكتاب كافة، ثم أصبح قاسياً قوياً لدى تعرّضه لشخصك الكريم ولعائلتك، وصولاً إلى إخراجك من لبنان، هل كانت هذه أهم جرائمه؟ هل المقياس هو ما سبّبه لك من إزعاج ولعائلتك، أم ما أقدم عليه من تدمير وإتلاف لوثائق بيت المستقبل؟ على أهمية هذه الجريمة! أم أنّ ثمة ما هو أكبر من ذلك بكثير؟ ماذا وقع في شرقي صيدا مثلاً؟ بل في صيدا نفسها، بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي تم بيسر وسهولة، وتسلّمت الأمن قوةٌ منتقاة من الجيش اللبناني ساهم في تشكيلها الشهيد رفيق الحريري، وكانت أهم أعماله وقتها، وكان كلّ شيء على ما يرام ولم يكن هناك من خطر أو خوف على أهلنا المسيحيين في شرق صيدا، أو حتى كان ذلك الهجوم المجرم ظهر يوم 18 آذار حيث قسّمت «القوات» اللبنانية صيدا إلى شطرين، وجعلت من حي القياعة خط تماس مع الهلالية والبرامية وعبرا وماهو بعدها… وبدأ القصف من شرقها على غربها، وحبست عائلات بأسرها بين الشطرَين… أصبحت القياعة التي هي حي صيداوي داخلي خط تماس مع القوات اللبنانية. لقد كان الهجوم الذي استمرّ حتى 26 نيسان خدمة كاملة للعدو الصهيوني، لم يكن هناك أي احتمال لأية مصلحة محتمَلة للبنان أو للمسيحيين على الإطلاق، ولو بنسبة واحد بالألف، ولكن كان تنفيذاً للخطة الإسرائيلية التي كانت تنصّ على أنّ المناطق التي تنسحب منها إسرائيل يجب أن تتقاتل وأن تُدمّر حتى يقول الإسرائيلي للرأي العام العالمي الغبي، إنّ وجود إسرائيل كان حاجة لأمن اللبنانيين، وإنّ اللبنانيين أعجز من أن يحكموا بلدهم.
عند الانسحاب، وبعد المخاوف التي بثّها العدو الإسرائيلي عن مصير المناطق التي سينسحب منها، وبعد فشل محاولة اغتيال مصطفى سعد رحمه الله في 25 كانون الثاني 1985 ــــــ أي قبل الانسحاب الإسرائيلي بحوالى 22 يوماً فقط ــــــ في أن تُحدث فتنة داخلية كما صرّح بذلك العملاء إثر الانفجار مباشرة، قام جعجع بتقديم هذه الخدمة المأجورة إلى العدو الصهيوني، ولم يكن في وارد أن يتعلّم من أخطاء عام 1983 عندما انسحبت إسرائيل من الجبل من دون تنسيق مع الجيش اللبناني، ولا مع حلفائها «القوات» اللبنانية، وزوّدت الدروز كما «القوات» بالسلاح اللازم للتدمير الذاتي، فكانت المجازر وكان الدمار، وكانت الكارثة، ولا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولكنّه ليس بمؤمن كما هو واضح.
ها هي إسرائيل تنسحب من شرقي صيدا وصولاً إلى أطراف جزين، وتجد «القوات» اللبنانية نفسها ملزمة بالانسحاب، ليصعد المسلّحون من صيدا وتحلّ الكارثة. لقد كان تعليق محافظ الجنوب وقتها (حليم فياض) في غاية الدقة، فقد قال يوم 18 شباط: خوّفونا ممّا بعد الانسحاب، وها نحن نعيش في أمان بعد الانسحاب الإسرائيلي، وضرب مثلاً على ذلك شخصية «راجح»، العدو الوهمي في فيلم «بيّاع الخواتم» للرحابنة والسيدة فيروز.
كان تشبيهاً بليغاً، ولكنّ عمالة جعجع فوّتت علينا فرصة الفرح بهذا الانسحاب التاريخي. هل يمكن أن يُغفل ذكر هذه الحقبة المهمة والمميزة من تاريخنا المعاصر؟ وهل يمكن أن تُقوَّم «القوات» اللبنانية، فقط من خلال أخطائها في الساحة المسيحية؟
إنّ إخفاء أو إغفال نصف الحقيقة قد يكون معادلاً لأسوأ أنواع الكذب، خاصة عند كتابة التاريخ والإدلاء بالشهادة لله وللوطن وللعائلة أيضاً، وإن مثل هذه العمالة ظهرت في أكثر من محطة خلال الحرب اللبنانية.
سادساً: صلاحيات رئيس الجمهورية
أما عن صلاحيات رئيس الجمهورية، فقد كان من حقّك في لحظة تاريخية، سواء كان الاتفاق الثلاثي أو غيره، ألّا تسجل على نفسك أنك قرّرت طواعية تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المطلقة والتي كانت أشبه بصلاحيات رئيس في نظام رئاسي، ولكننا نظام برلماني يفوز فيه الرئيس بفارق صوت واحد، ومع ذلك يتمتع بصلاحيات الملك. ولكن الواقع يقول إن واحداً فقط قبل «الطائف» كان يستحق هذه الصلاحيات، هو بالتأكيد الرئيس فؤاد شهاب، وواحد فقط بعد «الطائف» يستحق هذه الصلاحيات هو الرئيس إميل لحود، عدا ذلك لقد أساء جميع الرؤساء هذه الأمانة وأعطوا صورة بشعة عن الرئيس الماروني، بمن فيهم بطل الاستقلال بشارة الخوري، فكان لا بدّ من هذا التغيير. حصل هذا التغيير بعد التدمير الذاتي الذي مارسته أكبر قوتين مسيحيتين (بين التحرير والإلغاء ثم دمرت الأخرى بظرف تاريخي يستحيل أن يتكرر)، والله أعلم، ولكن كان لا بد من هذا الأمر. صحيح أنّ الوضع، الآن، ليس أفضل وأصبح كل وزير وكأنه رئيس، كما أننا لا نأمن أن تكون سطوة رئيس الوزراء فوقية، فيمرر ما يشاء بالمال أو بالتخويف أو بأي سلطة أخرى، ولكن بعيداً من كل القوانين يبقى الأصل هو الإنسان: هل نضمن أن يتسلّم المقاليد الإنسان المستقيم؟ عندما نضمن أن المسؤول مستقيم نسلمه كل الصلاحيات. ولكن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية كان خطوة ضرورية للإصلاح، بعد التجارب الأليمة التي مر بها لبنان، وتبقى خطوة ناقصة إذا لم تدعّم بإجراءات معينة ترفع مستوى المصلحة الوطنية على كل المصالح الفئوية والطائفية والمذهبية.
سابعاً: الاتفاق الثلاثي
بالتأكيد، لم يكن الاتفاق الثلاثي مؤهّلاً لأن يحلّ المشكلة البنانية، ولم يكن الوضع ناضجاً أصلاً، وهو لم ينضج إلا بعد «التحرير» و«الإلغاء»، كما ذكرنا، ولكن كانت فرصة اهتبلها عبد الحليم خدام عندما رأى أن قائد ميليشيا متطرفاً يوافق على الورقة التي وصلته من إيلي حبيقة، بعد اتصالات غير مباشرة اطلع عليها نبيه بري ووليد جنبلاط… من دون توقيع، فقال: هل تدريان من أين هذه الورقة، قالا: من أحد القادة «الوطنيين»، قال: بل من فلان، فتفاجآ، وهكذا بدأ الموضوع… من حقه وحق القيادة السورية أن يحاولا اغتنام هذه الفرصة النادرة، وكانت محاولة من المحاولات التي تذكر بمسرحية «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني، حيث صوّروا لنا أنّ الطبيب المعالج يتّصل من الخارج ويصف علاجاً فيفشل ثم يجرب غيره… أصبح اللبنانيون حقل تجارب، والحقيقة أنني التقيته أيضاً بعد سقوط الاتفاق الثلاثي مباشرة، فكان محبَطاً يسأل عن الأحاديث النبوية التي يظنّ أنها تصف الفتنة في جبل لبنان، فقال له من معي: مدّة الحرب اللبنانية حسب قناعتي (وكان من معي يؤمن كثيراً بهذا الجانب من الأحاديث النبوية)، اثنا عشر عاماً، فتفاءل بهذا، باعتبار أن الحرب قد مرّ عليها أحد عشر عاماً… عندما يعتمد سياسي كبير على ما يشبه «التنجيم»، فهذا يدلّ على مدى المغامرة التي كان يخوضها، ولكن السؤال: هل كان هناك أي احتمال لأي حلّ آخر؟ في النهاية، كانت محاولة جريئة أضيفت إليها حوارات ولقاءات وتجارب كثيرة حتى كان اتفاق «الطائف».
ثامناً: مرسوم التجنيس
أما عن مرسوم التجنيس، فلا وألف لا يا فخامة الرئيس، لقد تضمّن أخطاء لا شك ولا ريب، ولكن هناك أصحاب حق باليقين والدليل والبرهان ــــــ أهالي وادي خالد ــــــ أبناء القرى السبع كثير من مكتومي القيد بغير سبب، ولا يجوز أبداً أن نرى الأخطاء من دون أن نرى أصحاب الحقوق، ولا يزال يدوّي في ذهني ذلك العنوان في جريدة متواضعة كنّا نساهم في إصدارها في أوائل السبعينات «في وادي خالد: الدولة تجنّس البقر ولا تعترف بالبشر». نعم لقد جاء موظفو وزارة الزراعة، عام 1974، إلى وادي خالد لإحصاء الثروة الحيوانية اللبنانية، وأهالي الوادي لا يملكون إلا جنسية قيد الدرس. وهنا، أذكر ما يشبه النكتة من مقرّرات «سيدة البير»، أوائل الحرب اللبنانية: عتب على المسلمين لماذا يكثرون النسل، هذا مخالف للتطوّر البشري وما إلى ذلك، (أنقل ذلك من الذاكرة وليس من الوثائق). وعلى كل حال، العامل الديموغرافي فعل فعله، والهرم السكاني اختلف كثيراً عن عام 1943، فهل يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والعالم يتغيّر؟ هل نغيّر عقول الناس أو نقطع ألسنتهم خوفاً على الخصوصية المارونية؟ ألا يكفي أنّ كلّ القوى التي تمثّل المسلمين على تنوّعها مقرّة ومصرّة على المناصفة؟ العالم يتغيّر، ألم يصبح الزعيم المسلم القوي في فترة من الفترات، أقرب إلى الأم الحنون من كلّ المسيحيين؟ والحديث يطول! ولكن قانون التجنيس في الغالبية العظمى حقّ راسخ لا مراء فيه ولا يجوز أن يكون موضع مزايدة.
تاسعاً: مسؤولية الفلسطينيين!
لا ينبغي تحميل الفلسطينيين مسؤولية أكبر بكثير ممّا يتحملون. نعم لهم أخطاؤهم الكثيرة الناتجة عن أوضاعهم المعقّدة، ولكن اختصار أسباب الحرب اللبنانية تقريباً بالمقاومة الفلسطينية تزوير حقيقي للتاريخ، ألم تذكر قول بن غوريون عام 1954: إننا نحتاج إلى ضابط لبناني لنقيم دولة مسيحية في الجنوب بحسب تعبيره؟ يعني المخطّط الإسرائيلي موجود قبل المقاومة الفلسطينية بوقت طويل، وهنا سؤال أتمنى أن يكون الجواب عليه للجميع وليس لي فقط، ذكر ألان مينارغ، الكاتب الفرنسي المميّز، في كتابه «أسرار حرب لبنان»، أنّ الشيخ بيار الجميل المؤسّس، طلب من إسرائيل مبلغ عشرة آلاف دولار لدعمه في حملته الانتخابية عام 1951، فأرسلت له إسرائيل ثلاثة آلاف. إن كان هذا صحيحاً، ومينارغ يوثّق كتاباته بالأدلّة الدامغة، فمعنى ذلك أنّ الانحراف المتمثل بالعلاقة مع إسرائيل بدأ مبكراً، حيث لم يكن هنالك وقتها خوف من القومية العربية، ولا من شعارات عبد الناصر، ولا من الوحدة العربية، ولم يكن هنالك مقاومة فلسطينية، ولم تكن فكرة الوطن البديل والتوطين موجودة. فكيف نحصر أسباب الحرب اللبنانية بالفلسطينيين وهناك من لا يرى إسرائيل عدواً، والمعلومات نفسها ذكرها الكاتب الإسرائيلي المعروف رؤوفين آرليخ، في كتابه «المتاهة اللبنانية» مع تغيّر في الأرقام، ومع تفاصيل أكثر بكثير.
هذا فضلاً عن الكثير ممّا ذكره الكاتبان المذكوران، وغيرهما، بأدلة ووثائق، عن علاقة «الكتائب» ولقاءاتها المتعدّدة مع الإسرائيليين، ابتداءً من عام 1947 وصولاً إلى الحرب اللبنانية مع محطّات متعدّدة، فضلاً عن علاقة الكنيسة المارونية مع الصهيونية… ومنها، أن الدبلوماسي الصهيوني إلياهو إيلات، قام بزيارة البطريرك عريضة بعد تنصيبه (ونسج معه علاقات وطيدة).
كما ذكر أنه في 30 أيار 1946 بعد النكبة مباشرة، تمّ توقيع اتفاق بين الوكالة اليهودية والكنيسة المارونية للاعتراف بمطالب «الشعب» اليهودي في فلسطين، مقابل دعم إقامة دولة مسيحية في لبنان، إلخ، والكتاب مليء بالوثائق والأدلّة والتفاصيل المفجعة. كذلك، هالني على سبيل المثال لا الحصر، يوم السبت 25 تموز 2020، على شاشة الـ«إم تي في» مع دنيز رحمة، قول وزير «الكتائب» السابق سجعان قزي: «بدأنا بالمقاومة عام 1975 وقالوا لنا تصمدون أشهراً، فصمدنا سنوات وانتصرنا عام 1982». من الذي انتصر؟ الاجتياح والدماء والقتل الصهيوني انتصار لـ«الكتائب» وللمقاومة اللبنانية كما تسمّونها؟ هل هذه فلتة لسان تكشف مكنونات النفس (كما يقول علم النفس) أم خطيئة ينبغي تصحيحها؟ أفِدنا يا فخامة الرئيس.
عاشراً: وثيقة مار مخايل
كيف يمكن إغفال حدث تاريخي بحجم الوثيقة التي وقّعها العماد ميشال عون مع السيد حسن نصر الله في كنيسة مار مخايل في 6 شباط 2006، وهي من أهم التحوّلات في التاريخ اللبناني الحديث، بل في تاريخ المنطقة حيث أصبحت أكبر قوة مسيحية مارونية في لبنان، الداعم الرئيسي للمقاومة الإسلامية التي تواجه إسرائيل بالنيابة عن العالم الإسلامي كلّه، بل عن الأحرار في العالم كلّه. لقد جعلتَ كلمة رئيس ليتوانيا لاند سبيرجس، عنواناً في الكتاب «العالم يتغيّر كل يوم»، عنواناً لطيفاً لنصيحة مميّزة أسداك إياها الرئيس المغمور في البلد المغمور. نعم العالم يتغيّر، لقد كانت هذه الوثيقة علامة فارقة رعت المقاومة على الأقل عشر سنوات من توقيعها، إلى انتخاب الرئيس عون في 31 تشرين الأول 2016 بعد التسوية الرئاسية. أقول من خلال هذه السنوات العشر، وليس بعد ذلك، لأن الأمور تغيّرت نسبياً بالممارسات المنسوبة إلى جبران باسيل، والتي غطّاها الرئيس عون بشكل كامل للأسف الشديد، أما قبل ذلك فقد كانت هذه الوثيقة داعماً لأهم انتصارات لبنان، إثر عدوان تموز 2006، فكانت تحمي السلم الأهلي وتفتح آفاقاً للمستقبل، ولا تزال بالتأكيد مع بعض الفوارق. ولقد كتبتُ مرة في «النهار» على ما أذكر، أنّ تاريخ 6 شباط 2006، قد يكون للبنان من التواريخ المشهورة منذ 1860 إلى 1920 إلى 1943 إلى 1975 إلى 1982. كان تاريخاً مميّزاً وحدثاً مشرّفاً، كيف يمكن أن تغفل مذكراتك مثل هذا الحدث التاريخي؟ وما هو رأيك في الموضوع؟ لقد استمعنا إلى ملاحظاتك عن العماد عون في محطّات عدّة، وهذا من حقّك ولكن كيف لا يُذكر مثل هذا الحدث الذي أثّر على لبنان إيجابياً في مرحلة دقيقة وحرجة. وقد تزداد قيمة هذه الوثيقة، عندما نقرأ تاريخ العماد عون، وعلاقته ببشير الجميل، والثقة العميقة التي كان يتمتّع بها من الأطراف المسيحية كافة وعلى مساحة المراحل كافة.
أما ما نتج من هذا الاتفاق من تعطيل وجمود سياسي لفترة طويلة، فهو مؤذٍ من دون شك، ولكن الأشد منه أذى هو ما كان سيحصل من دون هذا الاتفاق ومفاعيله. ولا يجوز أن ننسى بأي حال، أنّ هذا الاتفاق كان يهدف إلى ما كان يطلبه المسيحيون جميعاً: أن يكون رئيس الجمهورية هو الأكثر تمثيلاً للمسيحيين، كما يفترض ذلك في رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة! فلا ينبغي أن يتم القفز عن هذه الفكرة الرئيسية.
أحد عشر: عين الرمانة
أعترف لفخامتك أن الاعتداء على المصلّين في عين الرمانة، قبل حادثة إطلاق الرصاص على الباص، لم يكن في ذهني ولا أذكره، وبالتالي كأنّك تبرِّر للذين أطلقوا النار على الباص بأنّهم قاموا بذلك كردّة فعل. لم يصل الأمر إلى حدّ التبرير الكامل، ولكن قارب ذلك، وهكذا كلّ شيء تقريباً، فقبل مجزرة الدامور 1976، المستنكَرة والبشعة والمؤلمة، كان هناك من يقطع طريق صيدا بيروت ويقتل على الهوية. حصل هذا تكراراً، وكان ما حصل في الدامور ردّة فعل (غير مبرّرة على الإطلاق)، والأفضل أن نضع في أذهاننا دائماً أنّ الاختراق الصهيوني موجود عند الجميع، وقد ثبت ذلك بالدليل والبرهان ولا أستبعد أبداً أن يكون الذين أشعلوا الفتائل هنا وهناك كانوا جميعاً من العملاء الصهاينة، الذين عملوا بدقة واحتراف لإيصالنا إلى ما نحن عليه. وهنا يُطرح سؤال: وكأنّك تعلم تماماً مَن الذين أطلقوا النار على الباص؟ ألم يحن الوقت للكشف عن أسمائهم، أو عن الجهة التي أمرتهم بذلك؟ لأنّك أشعرتنا بالحرج بسبب اتهام الكتائب (البريئة) من هذا العمل الشنيع. أليس من تمام الأمر إعطاء الصورة الكاملة خاصة وما ترمز إليه حادثة الباص كمنطلق للحرب اللبنانية؟ وبعد مرور هذا الوقت الطويل؟
ثاني عشر: العلاقة مع القادة الفلسطينيين
المقاومة الفلسطينية أخطأت كثيراً، ولكن في الوقت نفسه تحمل قضيّة مقدّسة. ويظهر تناقض واضح بين تحميلك الفلسطينيين مسؤولية خراب البلد، فيما هم كانوا في تل الزعتر حيث شاركت كما كتبت صاحب الفخامة. كانوا مستضعفين محاصَرين مظلومين، وكذلك في محطات أخرى، والسؤال: كيف ينسجم تحميلك الفلسطينيين هذه المسؤولية الكبرى، في الوقت الذي تفخر فيه بعلاقتك بالشهيد ياسر عرفات وخليل الوزير وأبو إياد وغيرهما؟ وهل العناصر والجنود مسؤولون عن الدمار والقادة مبرّؤون من المسؤولية؟ أم أنّ في الموضوع أموراً أخرى؟
ثالث عشر: الاستعراض
لقد كنتُ دائماً كمراقب، أتّهم شخصك الكريم بالاستعراض، يعني كأنّك تهتم بالصورة والشكل أكثر بكثير من اهتمامك بالمضمون، ولا بدّ أن نعترف أنك كنت في أكثر الأحيان توفّق بالشكل، ولكن يكون المضمون هباء، وهذا ينطبق على خطابك في ثكنة هنري شهاب في عيد الاستقلال، وعلى خطابك في الملعب البلدي في الطريق الجديدة، وعلى أكثر لقاءاتك وزياراتك، خاصّة المفاجئة منها واللطيفة، وعلى الاهتمام بالصغيرة ريميه بندلي وأغنيتها الجميلة «اعطونا الطفولة»، أو ذهابك وأنت تقود السيارة الشخصية لحضور الفيلم العالمي «غاندي»، أو توزيعك «سبحات» جميلة وثمينة على المسؤولين المسلمين كهدية، واللائحة تطول. وأظنّ أنّ الاهتمام بالشكل كان على حساب المضمون، لذلك والله أعلم فاتت فرص كثيرة كان يمكن الاستفادة منها. هذا أمر في تركيبة الشخص، ولكن يمكن تلافي الأمر بقرار حاسم يُلزم الإنسان نفسه ويغيّر حتّى من شخصه.
ولا بدّ من ملاحظات سريعة:
1 ــ تصوير المسلمين وسائر أنصار المقاومة الفلسطينية، على أنهم يناصرونها خوفاً فقط، افتئات على الحقيقة. كذلك، تصوير السياسيين اللبنانيين المسلمين الموالين للسياسة السورية، بأنّهم يفعلون ذلك خوفاً فقط، فيه مبالغة كبيرة، فإن كثيراً منهم اقتنعوا بالسياسة السورية فساروا بها طوعاً لا خوفاً، وأرجو ألا أُفهم خطأً عندما أذكر بيت الشعر للمتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتريه من توهم
1ــ اتهام الجيش اللبناني باغتيال معروف سعد، لا ينبغي أن يكون مجرّد اتهام. إنّ الذي أطلق الرصاص جندي في الجيش اللبناني اسمه معروف، والسؤال: هل كان بأمر من قيادته أم لا؟ هنا المعضلة التي لم تُكشف: أخبرني هنا الرئيس ميشال عون في منزله في الرابية، عام 2007، أنه كان وقتها قائداً للجيش في الجنوب، وكان منزله في بيوت الضبّاط في صيدا، وأنّه تعاون مع التحقيق وأرسل كلّ من طُلب إلى التحقيق، ولا نعلم بقية التفاصيل التي ذهبت أدراج الرياح، وكانت جزءاً من المخطّطات التي أشعلت الحرب اللبنانية.
2 ــ صورة فخامتك مع رشيد الصلح، وأنت تمسكه من الخلف وتجرّه بحجّة أنه يجب أن يسمع تعليق «الكتائب»، لم تكن أمراً موفَّقاً ولا يمكن أن تضعه في سجل حسناتك وإنجازاتك. كان يمكن إسماعه رد «الكتائب» من دون هذه الوقفة الاستعراضية المؤذية للمشهد السياسي.
3 ــ أيضاً إغفال مجزرة إهدن أمر ليس مقبولاً.
4 ــ لم يكن الدخول السوري إلى لبنان بطلب من «الكتائب» ولا من فرنجية، كيف؟ ما هي الحقيقة وما هي الوثائق؟
5 ــ سررت بذكرك لوظيفتك المتواضعة في مجلس المشاريع الكبرى التي كانت السبب في تعرّفك إلى مناطق لا تعرفها من لبنان.
6 ــ عندما تكثر الحديث عن تجاوز الإرادة اللبنانية: قرارات تؤخذ من دون استشارة اللبنانيين كاتّفاق «مورفي ــــــ الأسد»، أو الدخول السوري إلى بيروت في شباط 1987، أو غير ذلك، أليس في ذلك مبالغة؟ يجب الاعتراف بأنّ السبب هو الخلافات اللبنانية الحادّة، بل الانقسامات، وأنّ فخامتك في تلك الفترة، كنت لا تمثل أحداً في لبنان تقريباً، المسيحيون رفضوا دورك وقراراتك، والمسلمون كذلك على حدّ سواء، ومؤسّسات الدولة منهارة، من يُستشار وكيف ولأيّ سبب. كانت تلك المرحلة كأنّها مرحلة انعدام الوزن، والسبب الرئيس هو التردّد في شخصيّتكم الكريمة وعدم الوضوح، والتناقض بين ما يقال في الاجتماعات وما يمارَس في الواقع، كما يقول كلّ من تعامل معك من السياسيين، سواء كانوا مؤيّدين أو معارضين.
7 ــ حذّرت كثيراً من غدر الأميركيين وتخلّيهم عن أصدقائهم، واستشهدت بفرح ديبا ونيكسون وغيرهما، ولكن ذلك لم يظهر في سياستك وقراراتك، فظللت تعتمد عليهم وتثق بهم في الظاهر على الأقل. ولقد ذهبت مباشرة بعد خروجك من بيروت إلى هارفرد وغيرها من جامعات أميركا… وكأنك تقول مع الشاعر: «وداوني بالتي كانت هي الداء». ولن يلخِّص السياسة الأميركية في لبنان تجاه المسيحيين أفضل من هنري كيسنجر، حين قال للرئيس سليمان فرنجية: «هذه البواخر تنتظركم، تذهبون جميعاً إلى أميركا وتعيشون هناك أفضل حياة»، هكذا بكل بساطة.
8 ــ سررت بذكرك تقرير لجنة التحقيق البرلمانية، التي برّأتك من تهمة الحصول على عمولة من صفقة طائرات «البوما»، والحق أنّ هذا الأمر ليس مشهوراً، وكان ينبغي أن يكون إعلانه أكثر شهرة. هذا مع العلم أنّ مثل هذه «البراءة»، يمكن أن تكون جزءاً من صفقة أو تسوية سياسية، فأنت تعلم تماماً أن الجمهور فقد الثقة بكل ما هو رسمي تقريباً، حتى لو كان الذي أعلن هذه البراءة، صاحب الوجه البشوش والصيت الحسن الرئيس إيلي الفرزلي حفظه المولى.
وللأسف أقول، تحتاج فخامتك إلى جهد أكبر لإقناع الرأي العام أنّك مبرّأ من كل التهم المالية المنسوبة إليك، من المشاركة الإجبارية لبعض المشاريع في المتن، إلى كثير من الاتهامات التي لا تعتبر «البوما» أهمّها. نتمنى أن يحصل ذلك للتاريخ.
9 ــ سؤال يطرحه الجميع: لقد نُفّذت أحكام إعدام متعدّدة في عهدك، أذكر منها إبراهيم طراف الذي قطّع ضحيّتَيه إرباً، ورماهما في حديقة الصنائع، وغيره، لماذا لم يتم إعدام حبيب الشرتوني، طالما أنّ التهمة قد ثبتت عليه؟ هل كان هناك ضغوط؟ هل كنتم تنتظرون أن يكشف عن معلومات أكثر؟ حقيقة يجب أن تُعلن، ولا يجوز فقط أن تذكر فخامتك على سبيل الإدانة، أنّ قوة من الجيش السوري ذهبت إلى رومية وأطلقت سراحه بعد 13 تشرين 1990 (هذا طبعاً بغض النظر عن رأينا بالموضوع، والذي لا شكّ يختلف تماماً؛ إنما هو تساؤل كبير ينتظر التوضيح من فخامتك).
10 ــ أبرزت فخامتك دورك في مقاطعة انتخابات 1992 كدور بطولي. هل كانت هذه المقاطعة فعلاً بطولة، أم كانت خطأ كبيراً تمّ تلافيه في انتخابات 1996؟
11 ــ ذكرتَ أنّ تبوُّء الرئيس ميشال عون منصب رئيس مؤقت للحكومة كان باختيارك، المشهور بالإعلام، والله أعلم، أنّ جعجع قام بإرغامك على هذه الخطوة التي كنت ترفضها، وكانت صورة وجهك تنبئ بمثل هذا، أين الحقيقة؟
12 ــ صدّرت الكتاب بكلمتك المشهورة: أعطونا سلاماً، وخذوا ما يدهش العالم، لقد رأيتك على الشاشة تستمع إلى كلام يوجّهه إليك جوزيف جريصاتي، فيذكر هذه الجملة امتداحاً لفخامتك، فعلقت مازحاً: «أنت الذي قلتها وليس أنا»، باعتباره كان يكتب الخطب لفخامتك. برأيي المتواضع لا بأس من ذكر هذه الملاحظة مثلاً: كلمتي هذه التي صاغها فلان وتبنيتها فأصبحت شعاراً للعهد، ولهذا الكتاب… من باب العرفان لمن كتبها ثم لمن أطلقها شعاراً؟
13 ــ لا شك أنني في هذه الصفحات لم أذكر كلّ شيء، ولم أعلّق على كل شيء، الجعبة مليئة بالذكريات والتعليقات والتفاصيل التي عشناها يوماً بيوم، وساعة بساعة، ولكن ما كتبناه قد يكون عنواناً للذي لم نستطِع كتابته خوفاً من الإطالة، أو من أمور أخرى… ولا بد أن ياتي يوم نؤرّخ فيه لهذا الوطن بلغة واحدة، إن شاء الله، على صعوبة هذا التمنّي، ولكن الله على كلّ شيء قدير.
خاتمة
أخشى فخامة الرئيس أن تكون النتيجة التي يخرج بها القارئ من هذه المذكّرات، هي اليأس من بناء لبنان من جديد، طالما أنّ فريقاً من اللبنانيين ينظر إلى إسرائيل كحليف دائم أو محتمل، وليس كعدو تاريخي وجودي كما ينظر الآخرون. ولا يبدو أنّ التجارب تدفع الفرقاء والذين أوغلوا في الأخطاء، إلى مراجعة حساباتهم وإجراء محاسبة ذاتية ومواجهة الجمهور اللبناني بنتيجة هذه المراجعات. ولكنّ اليأس لن يدخل إلى قلوب المخلصين، نستطيع مثلاً أن ننتقي من المشاهد المتناقضة، ما يدفعنا إلى الأمام كمن يرى النصف المليء من الكوب، فمثلاً بالنسبة إلى فخامتك: صورتان متناقضتان إحداهما تدعو إلى اليأس: كلامك الجازم على قناة «الجزيرة» أنّ إسرائيل هي الوحيدة التي كانت تدعم «صمود» المسيحيين في وجه الآخرين خلال الحرب اللبنانية… صورة مؤلمة. والصورة التي تدعو إلى التفاؤل، أي ردّة فعل فخامتك عند اغتيال ولدك البكر والوزير المميّز الواعد بيار الجميل، حيث دعوت إلى أن تكون تلك الليلة ليلة صلاة ودعاء بعيداً عن الانتقام والدماء. ثم ما لبثت أن قمت بزيارة لسماحة السيد حسن نصر الله، في تلك الفترة التي كان فيها الانقسام عامودياً حاداً.
سنبقى نبحث عن الأمل حتى يفرِّج الله تعالى عن هذا الوطن، وعلى هذا الأساس سيكون جوابنا على العنوان: نعم ستنفع الكتابة بإذن الله.
(*) الأمين العام لاتحاد علماء المقاومة