من الواضح أنّ شدّ الحبال الاميركي – الإيراني سيستمر بوتيرة تصاعدية خلال الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الاميركية، ومعه من المنطقي الاستنتاج، بأنّ الضغوط الاميركية على «حزب الله»، الحليف الأهم لإيران، ستزداد في المرحلة المقبلة. صحيح أنّ طهران تراهن على سقوط دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعودة الديموقراطيين الى البيت الابيض من خلال فوز جو بايدن، الّا انّ ذلك لن يعني تبدّلاً في جوهر المشروع المطروح للمنطقة، بل تبدّلاً في الاسلوب وبعض الشروط. لكن الجوهر يمثل مشروعاً اميركياً صاغته مؤسسات الدولة العميقة، وبدأ مشواره مع التوقيع على الاتفاق النووي بين البلدين في العام 2015.
وفق هذا المنطلق، يمكن تفسير توجيه اعضاء من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في مجلسي النواب والشيوخ، دعوة للاتحاد الاوروبي لإدراج كامل «حزب الله»، اي بشقيه العسكري والسياسي، كمنظمة ارهابية، والدعوة لحظر نشاطه في اوروبا.
وقد تمّ توجيه هذه الرسالة الى الوفد الاوروبي الذي يزور واشنطن، لكن الجواب الاوروبي كان بأنّ الجناح السياسي لـ«حزب الله» جزء لا مفرّ منه في المشهد السياسي اللبناني، ذلك أنّ الاوروبيين ما زالوا يؤمنون بأنّ الانخراط في حوار منتج مع جميع الاحزاب الموجودة في لبنان، يبقى مفتاح الاستقرار، وليس فقط في لبنان، بل في الشرق الاوسط ايضاً، وأنّ الاتحاد الاوروبي سيبقي على تواصله مع السلطة اللبنانية بأكملها.
كان هذا الحوار يدور في واشنطن، في الوقت الذي كانت فيه «حرب» تبادل الرسائل تدور بين الديبلوماسية الاميركية و«حزب الله» في لبنان.
في الواقع، هنالك مساران لتطور هذه المواجهة. المسار الاول وهو المتعلق بالرسائل التي كانت تتضمنها المواقف الاميركية الرسمية، والردّ عليها من خلال قرار قاضي العجلة في صور محمد مازح.
والمسار الثاني، وهو الاهم، والذي له علاقة بالعروض الحكومية في الكواليس تحت الضغط الاقتصادي المرهق. وبالنسبة للمسار الاول، فإنّ كلام السفيرة الاميركية الى قناة «الحدث»، والذي حمل مواقف قوية، لم يكن موقفاً مفاجئاً لواشنطن. فخلال الاسبوعين الماضيين، صدر عن ثلاثة مسؤولين اميركيين معنيين بالملف اللبناني، مواقف صبّت في السياق نفسه.
الموقف الاول ادلى به مساعد وزير الخارجية الاميركية دايفيد شينكر، والثاني لوزير الخارجية مايك بومبيو، وجاء بعد ايام معدودة. واخيراً موقف السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا، وهو الذي أثار الجدل الأكبر.
الواضح أنّ المواقف الثلاثة ركّزت على الحكومة وعدم قيامها بالاصلاحات المطلوبة ووقوعها تحت سلطة «حزب الله».
في الواقع، فإنّ اسلوب السفيرة الاميركية في لبنان يختلف تماماً عن اسلوب اسلافها، وانّ تعيينها في المرحلة الحالية، هو بسبب ملاءمة اسلوبها متطلبات المرحلة. ذلك أنّه لم يسبق لسفير اميركي على مرّ تاريخ العلاقة بين البلدين، أن ادلى بمواقف اعلامية بهذه الكثافة. لا بل على العكس، فإنّ الأسلوب السابق او الطريقة المعهودة، كانت تشهد «تقنيناً»، وندرة في التعليق الاعلامي. كذلك، فإنّ مواقف السفراء الاميركيين كانت تغلّف المواقف المطلوبة بعبارات منتقاة جيداً، ويغلب عليها الطابع الديبلوماسي. أما اسلوب السفيرة شيا فهو واضح ومباشر، ويشبه الى حدّ بعيد أسلوب الرئيس الاميركي وادارته.
هذا في العلن، لكن الاهم ما دار ويدور في الكواليس السياسية. فخلال الأيام الماضية، ظهر همس قيل إنّ الديبلوماسية الفرنسية تقف وراءه، وجرى تسويقه بشكل محدود، ليطال اطرافاً سياسية بارزة. وفحوى هذا الهمس، انّ لبنان يئنّ تحت ثقل ازمة نقدية خطيرة، قد تدفع بالعملة الوطنية للانهيار بشكل سريع وكامل.
وطالما انّ الحلول الاقتصادية الخارجية مجمّدة حتى حصول الاتفاق الاميركي – الايراني، والمرجّح الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، وهو ما لا طاقة للبنان لتحمّله، وطالما انّ الحكومة اثبتت فشلها وعجزها حتى الساعة ولم تُقدم على خطوة اصلاحية واحدة، فإنّ الذهاب الى حكومة جديدة قد يشكّل حلاً مؤقتاً لهذه المرحلة، شرط ألاّ تضمّ في صفوفها تمثيلاً أكان مباشراً او غير مباشر لـ«حزب الله». وعندها يمكن تأمين مساعدات عاجلة من الجهات الدولية، تؤدي الى وقف انهيار العملة الوطنية وتسمح للبنان بتمرير المرحلة.
ووفق هذه التسريبات، فإنّ واشنطن تؤيّد باريس في هذا الطرح، مع فارق أنّ باريس تريد موافقة «حزب الله» على الحكومة العتيدة، قبل خوض هذه الورشة.
وفي تدقيق سريع في خلفيات المواقف الاميركية الاخيرة، يمكن «شم» هذه الرائحة. «حزب الله» الذي لا بدّ وسمع بما هو مطروح، قد يكون ارسل جوابه من خلال قرار القاضي مازح.
وفي هذا الوقت نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً أشارت فيه، الى انّ لبنان مقبل على الانهيار والبؤس والجوع. واستبعد التقرير موافقة صندوق النقد على منح قروض للبنان، نظراً لفشل الحكومة في تقديم خطة اصلاح حقيقية وتزايد الانقسام الداخلي.
وخلال الايام الماضية تحدث الديبلوماسيون الغربيون في بيروت وبصراحة كاملة حول فشل الحكومة، واضعين ثلاث أولويات «اصلاحية» فشلت الحكومة في تحقيقها.
الاولوية الاولى تتعلق بالكهرباء. حيث رأوا انّ اعادة كسر القرار الحكومي في موضوع سلعاتا، وعدم تعيين اعضاء الهيئة الناظمة، اعطيا اشارة سلبية جداً حول الاصلاح الكهربائي.
الاولوية الثانية، وهي المتعلقة باستقلالية القضاء. فقد جاء ردّ رئيس الجمهورية للتشكيلات القضائية بمثابة الصفعة القوية لهذا المشروع. والاولوية الثالثة والمتعلقة بإخضاع التعيينات لمعايير علمية والكفاءة. وجاءت التعيينات الاخيرة على اساس المحاصصة في الحكومة، لتؤدي الى خيبة امل، ولتوجّه رسالة بأنّ الإصلاحات مستحيلة مع هذه الحكومة، وأنّ دياب دخل طرفاً في المحاصصة. كذلك جاء موضوع التفاوض مع صندوق النقد، وفق انقسام الوفد اللبناني حول وجهتي نظر ورقمين مختلفين حول ديون لبنان، من جهة ارقام الحكومة، والتي كانت مرتفعة، والتي تخفي وراءها نيّة الذهاب لإعلان لبنان دولة مفلسة، اي هدم كل ما تبقّى من الركائز المالية والاقتصادية والمصرفية، واعلان افلاس المصارف وزوال اموال المودعين، والبدء بإعادة بناء تركيبة مصرفية مالية جديدة.
من هنا ظهور فكرة الترخيص لخمسة أو ستة مصارف جديدة، لكن هذه النظرية مرعبة وغير مضمونة، خصوصا وأنّ المعروض في المقابل خمسة مليارات دولار فقط من صندوق النقد، وهو مبلغ اقل من زهيد لإمكانية الانطلاق في عملية بناء جديدة.
مع الاشارة الى انّ هذه الارقام التي بُنيت على المبالغة في التقديمات، وضعها فريق كان ممنوعاً عليه التواصل والاطلاع على الارقام والمعطيات الحقيقية لمصرف لبنان وجمعية المصارف.
في الواقع، فإنّ رئيس الحكومة شعر بالخطر يتهدّد بقاء الحكومة، ولم يهدئ من روعه سوى عندما تبلّغ اكثر من مرّة إصرار «حزب الله» على التمّسك بالحكومة.
فحتى النائب جبران باسيل لم يكن حاسماً في دعمه للحكومة، وهو قال في كلمة له، انّ الحكومة باقية طالما انّ البديل غير متوفر. وهو ما يعني انّ الحكومة باقية بالإكراه. وفي مؤتمر قصر بعبدا استكمل كلامه بانتقاد الحكومة على اساس تراجع انتاجيتها.
وفي زيارته الاخيرة الى عين التينة، سمع رئيس الحكومة من رئيس المجلس النيابي دعمه للحكومة. وقال بري لدياب: «هذه الحكومة باقية حتى نهاية العهد». وأجاب دياب، بأنّ الحكومة باقية بالسياسة، لكن المسألة مع الشارع مختلفة.
وتساءل دياب: «ماذا سيحصل إذا استمر تدهور الوضع الاقتصادي والمالي وذهب الشارع الى فوضى اكبر وسقطت دماء؟».
وتابع: «انني اطلب دعمكم لتحقيق انجازات. فالفوضى في الشارع قد تدفع لإسقاط الحكومة من دون تأمين بديل، وهذا سيعني استمراري لتصريف الاعمال، ما يضاعف من وزر المرحلة. والأفضل بقاء واستمرار الحكومة، على الانزلاق الى واقع تصريف الاعمال.
وفيما تتحضّر جمعية المصارف لرفع دعوى قضائية ضد الدولة اللبنانية بسبب احتجازها لأموال المودعين وعدم تسديد ديونها لإعادة المبالغ الى اللبنانيين، فإنّ ملفاً أشد خطورة دقّ ابوابها، وهو المتعلق بترسيم الحدود البرية والبحرية الجنوبية. وقد يكون «حزب الله» راقب بتمعن طلب باسيل الإمساك بالملف، لكن الجواب جاء جافاً وجامداً، بأنّه كان وسيبقى مع الرئيس بري.
ذلك انّ «حزب الله» قد يكون يتوجس من رسائل تودد باسيل للاميركيين والقائمة على خلفيتين: العقوبات والاستحقاق الرئاسي. وهو ما ساهم سابقاً في اطلاق العميل عامر الفاخوري.
تبقى الاشارة الى طرح يجري تداوله لتخفيف الضغط الاقتصادي عن لبنان، ويقضي بفتح ابواب التعاون مع العراق وفتح الاسواق، وحتى استجرار حاجة لبنان الكهربائية، حتى ولو تطلّب ذلك قيام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بزيارة الى بغداد على رأس وفد وزاري معني.
لكن هذا الطرح لا يزال بحاجة لإشباعه درساً.النشرة