كشفت دراسات ووسائل إعلام عبرية في العقود الأخيرة، عن المصير الأسود الذي لاقاه عدد كبير ممن تعاون مع إسرائيل وقدموا لها خدمات، لكنها لا تتردد في إلقائهم بسلة المهملات بعد انتهاء مهامهم. وكشفت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن قصة تاريخية تظهر ملاحقة عائلة من قرية أبو غوش غربي القدس رغم تعاون بعض أبنائها مع منظمة صهيونية إرهابية في فترة الاستعمار البريطاني.
والحديث يدور عن شخص يدعى يوسف أبو غوش، الذي تعاون مع أعضاء منظمة “الليحي” الصهيونية على تهريب غؤولا كوهن واحدة من إرهابيات هذا التنظيم من السجن البريطاني، وقد توفيت في العام الماضي، وهي والدة الوزير تساحي هنغبي (الليكود).
وعلى خلفية تنكيل إسرائيل بمن تعاون مع “الليحي” قالت كوهن قبل وفاتها كما تؤكد الصحيفة، إنها كلما زارت قرية أبو غوش كان يتملكها شعور قوي بزيارة ضريح يوسف أبو غوش وطلب السماح منه. وقالت الصحيفة، إنها قصة “صداقة شجاعة بين عائلتين يهودية وعربية بدأت في فترة الانتداب البريطاني عندما قام يوسف أبو غوش عضو منظمة الليحي وبعض أفرادها بتهريب غؤولا كوهن من السجن البريطاني، وقد عملت وقتها كإعلامية في منظمتها، ولاحقا انتخبت عضوة في الكنيست بعد 1948 “.
وتوضح الصحيفة أن القصة كانت بدايتها صداقة وتتمتها خيانة، بعدما قامت إسرائيل بقيادة حزب “مباي” بملاحقة يوسف وأصدقائه وأقربائه في قرية أبو غوش، فصادرت أراضيهم ومنازلهم وتركتهم معدومين بلا شيء، ومع ذلك ما زال ثابت أبو غوش ابن فؤاد أبو غوش، وتساحي هنغبي ابن غؤولا كوهن، يحافظان على صداقة لليوم.
واستذكرت “إسرائيل اليوم” في مقابلة أجرتها مع كوهن قبل رحيلها بسنوات، قالت فيها إنها نادمة وآسفة باسم الدولة على خيانتها لمن خاطر بحياته من أجل إنقاذها. وتستذكر أيضا أن القوات البريطانية داهمت في ربيع 1946 محطة إذاعية سرية عرفت بـ”صوت العمل السري العبري” كانت قائمة داخل بيت في تل أبيب واعتقلوا كوهن وبعض زملائها.
ولاحقا حكمت السلطات البريطانية على كوهن بالسجن الفعلي لسبع سنوات لإدانتها بالانتماء لتنظيم إرهابي محظور. وبعد محاولتين فاشلتين للهرب من السجن في بيت لحم، ابتدعت زميلة لها في السجن تدعى مالكا هافنر فكرة تهريبها من المستشفى الحكومي داخل السجن البريطاني المركزي في القدس.
وعن ذلك قالت الصحيفة: “كانت هافنر قد عادت من ذاك المستشفى للسجن بعد أوجاع في الظهر، وأبلغت كوهن بالفكرة. كي تبدو مريضة ابتلعت كوهن كمية من التبغ الذي رفع درجة حرارتها وما لبثت أن اشتكت من ضغوط في صدرها لكنها سرعان ما مرضت فعلا في رئتيها، فأوصى طبيب السجن بنقلها للمستشفى، محذرا من تردي حالتها الصحية، وفي الليلة الأولى داخل المستشفى الحكومي عولجت كوهن تحت حراسة مشددة وبجانبها طبيب لازم سريرها وراقب عملية تنفسها، وما إن تحسنت، حتى بدأت تتكاتب مع أفراد “الليحي” برسائل مقتضبة كتبت على قصاصات ورق هربتها ممرضة يهودية وطلب منها يتسحاق حاسون من مخابرات “الليحي” أن تحاول البقاء في المستشفى لعدة أيام ريثما يتم تخطيط عملية تهريبها.
وتستذكر الصحيفة أن طبيبا يهوديا يدعى كاهنا عمل في المستشفى الحكومي، أمّن لها المكوث فيه لعدة أيام، فأخذت تتجول داخل أقسامه بحثا عن نقطة ضعف في الحراسة عليه، حتى تم تحديد موعد لعملية التهريب.
وحسب الخطة طلب منها أن تجبر الأطباء ورجال الحراسة على البقاء مطولا داخل الحمام، وفعلا بدأت تستحم ثلاث مرات في اليوم لفترات مطولة. وتضيف: “بناء على طلب الممرضة، قالت كوهن إنها تتنازل عن استحمام الصباح على أن يكون استحمام الظهر مطولا أكثر ولاحقا تم تهريب ساعة يد لها وقيل لها إنه عندما ترى عند الساعة الواحدة والنصف من يوم الهرب المحدد رجلا عربيا بزي أجنبي تبرز شارة حمراء في بدلته داخل رواق المستشفى، فعليها أن تعود للحمام حيث تنتظرها خلف برميل الماء الساخن حزمة ملابس منها فستان أخضر مزدان بأزهار بيضاء ومعطف نسائي عربي أسود وطويل وحجاب وحذاء وتنتظر داخل الحمام حتى تسمع من ينادي بالعربية “ياما ياما” وهذه إشارة أن الطريق خالية وآمنة”. وحسب الصحيفة الإسرائيلية دخل يوسف أبو غوش واثنان من أبناء عمه.
** خطة التهريب
وكان يوسف طبقا للصحيفة قد رهن بيته أيضا لمنظمة “الليحي” وساعدها في حيازة السلاح ومعالجة جرحاها واقترح عليها تشكيل سرية عربية تعمل في إطارها.
واطلع لوط مع زملاء له في “الليحي” على أن رقابة البريطانيين أقل شدة على الزائرين العرب للمستشفى الحكومي، وقام بتجنيد صديقه أبو غوش وبعض أقربائه، واتفق معهم على زيارة قريبتهم المريضة داخل المستشفى وإثارة حالة فوضى في لحظة معينة، بعدما تم استحضار سيدة يهودية (ريفكا حازما) انتحلت شخصية زوجته.
وتقول الصحيفة الإسرائيلية إن الخطة طبقت كما يجب، حيث دخلت كوهن الحمام تزامنا مع الشجار المفتعل الذي قام به أفراد عائلة أبو غوش، وقد خرجت من الحمام وقد اردت ثياب سيدة عربية، فيما سارع الحارس والحارسة اللذان توليا حراستها إلى رواق المستشفى لاستطلاع الضجة الكبيرة الصادرة عن “الشجار” وعندها تسللت كوهن متنكرة بزيها العربي عبر مدخل المستشفى وهربت نحو نقطة اتفق عليها مسبقا، حيث كانت سيدة يهودية أخرى (درورا سوفير) تتنكر بزي عربي وعلى رأسها سلة من قش مزنرة بقماش أحمر وهذه قادتها نحو زقاق قريب حيث انتظرتهما مركبة أخذتهما وفرّت من المكان عند الساعة الواحدة و37 دقيقة، وبسبب التوتر والخوف أغمي عليها داخل المركبة، ولما استيقظت داخل شقة سرية في القدس وجدت طبيبا بجانب سريرها.
** اغتيال برنادوت
وداخل المستشفى الحكومي واصلت مياه الحمام التدفق، فيما تصالح “المتشاجرون” في الرواق، ولما عاد الحارسان وجدا أن الحمام فارغ، وسارع البريطانيون فورا للربط بين “الشجار” وبين هربها، وقاموا باعتقال أبناء عائلة أبو غوش لعدة شهور وتعرضوا للتعذيب لكنهم لم يفصحوا عن السر.
وتم تسريح يوسف أبو غوش قبيل رحيل الاستعمار البريطاني في مايو/ أيار 1948، لكن الأمور عادت وتعقدت عندما اغتالت “الليحي” الوسيط الأممي فوليكا برناديت من السويد في سبتمبر/ أيلول لطرحه خطة تسوية للصراع اعتبرت القدس مدينة فلسطينية فقط، وعندها أمر رئيس “الهاغاناه” دافيد بن غوريون باعتقال رجالات “الليحي” ومنهم أبو غوش.
وبعد خمسة شهور تم إطلاق سراح أبو غوش ضمن عفو عام أعلنته الحكومة الإسرائيلية المؤقتة في 1948/9، ولما خرج اصطدم بواقع جديد، حيث قامت الحكومة بالانتقام منه لمساعدته منظمة “الليحي” المنافسة للهاغاناه نواة الجيش الإسرائيلي.
وتستذكر الصحيفة أن مختار قرية أبو غوش محمد رشيد أبو غوش، كان على خلاف مع يوسف أبو غوش الذي تم سلب أملاكه وبيته. كذلك تقول إن عائلة يوسف أبو غوش اختفت بل تم إخلاء معظم سكان القرية وبعضهم طرد للأردن، وكان من بينهم زكية زوجة يوسف أبو غوش وابناهما ثابت ونادية، الذين وصلا إلى نابلس، ولما حاولوا العودة طردتهم حكومة إسرائيل الأولى إلى الأردن.
** طردنا في الليل وألقوا بنا في الغابة
وقالت إن بعض أبناء عائلة أبو غوش كانوا يناوؤون المفتي الحاج أمين الحسيني، ويتعاونون مع الحركة الصهيونية، وباعوا لتنظيماتها سلاحا وأرضا أقيمت عليها مستوطنات “كريات ياعريم” و”نافيه ايلان” و” معاليه حميشاه”.
وتقتبس “إسرائيل اليوم” عن ثابت أبو غوش (78 عاما) قوله إنه يذكر أن من طرده وأسرته هو حاييم تابوري، ضابط في الشرطة الإسرائيلية كان مسؤولا عن ضواحي القدس، ولاحقا صار مفتشها العام. وعن ذلك يقول: “كنا نختبئ داخل غرفة في المقبرة ويبدو أن أحدهم وشى بنا، فوصل الضابط وأجبرنا على مرافقته حتى المدخل الغربي لمنطقة باب الواد، فبقينا هناك طيلة شهرين نقيم داخل الغابة الموجودة تحت السيادة الأردنية وقتها، قبل أن نعود إلى نابلس وأقمنا فيها لعدة شهور فيما كان والدي معتقلا حتى العفو العام، فخرج يبحث عنا رغم صدور حكم أردني بإعدامه لتعاونه مع اليهود”.
كما تنقل عنه قوله إن عمه أنذر رئيس بلدية نابلس وقتها سلمان طوقان بأنه بحال سقطت شعرة واحدة من رأس أبي فستشهد المملكة حالة فوضى، وقد فهم الملك الرسالة.
ويتابع: “حرص والدي على تهريبي لإسرائيل وقد احتضنتني عائلة روبيك غرينبيرغ اليهودية وهو عضو قيادة (الليحي) حيث خطط ووالدي طريقة يتم تهريب غؤولا كوهن. وأقمت معهم لمدة عام وكأنني ابنهم ولن أنسى لهم صنيعهم، ولاحقا عادت أمي وأختي عبر بوابة منديلباوم في نطاق لم شمل عائلات، وعشنا حياة فقر وشقاء في أبو غوش بعدما صادرت الحكومة الإسرائيلية كل ما نملك، وأذكر أن والدي لم يكن قادرا على شراء رغيف أو طعام وكنا نعتاش على الصدقات”.
وتقول “إسرائيل اليوم” إن عناصر تنظيم “الليحي” الإرهابي أقاموا ضجة في إسرائيل بعدما ظنوا أن السلطات الأردنية اختطفت يوسف أبو غوش، فطالبوا الحكومة باستعادته، إلى أن قام ضابط الشرطة تابوري نفسه الذي سبق واعتقله بالكشف عن أن يوسف أبو غوش ذهب للأردن بحثا عن أسرته.
كما تنقل الصحيفة عن ثابت أبو غوش قوله: “لاحقا ذهبت لمقابلة تابوري وقد صار قائدا للشرطة الإسرائيلية لكن الحراس منعوني من مقابلته، فاعتصمت هناك حتى رضي باستقبالي، وسألته: كيف كان شعورك حينما داهمت أسرتي في منتصف الليل المختبئة داخل مقبرة قرية أبو غوش وألقيت بها في الغابة رغم مساعدتها في قيام الدولة؟”.
عن ذلك قال تابوري: “كان أمامي خياران إما طرد الأسرة، أو فقدان وظيفتي”.
** المختار رفض إخلاء القرية
كذلك يقول ثابت أبو غوش إنه رفض الكشف عن هوية من أصدر الأوامر بطرد أسرته، ويضيف: “لكنه أبدى استعداده لمساعدتنا بكل شيء، وفعلا ساعدنا. وقتها دخل والدي في حالة اكتئاب عميق حتى مات في 1996، وقضى معظم سنواته داخل غرفته ولم يبرحها حتى بعدما منحته السلطات الإسرائيلية شهادة تقدير”.
منوها أن غؤولا كوهن سعت دائما لمساعدة الأسرة، فيما زار والده اسحق شامير عضو “الليحي” الإرهابية ورئيس حكومة إسرائيل لاحقا، وساعدنا باستعادة بيتنا المصادر. ووالدي وأنا لم نندم يوما على ما قدمناه من أجل الدولة.
وتنقل “إسرائيل اليوم” عن الوزير تساحي هنغبي قوله إنه لا يعرف لماذا لا تتكرر مثل هذه التجربة مع بقية القرى العربية في إسرائيل “الخالية من مثل هذه التجربة في مساعدة اليهود”.
وتقول إن رئيس إسرائيل الراحل يتسحاق نافون، قد كتب في مذكراته، إنه سعى جاهدا لدى دافيد بن غوريون لمنع تهجير قرية أبو غوش، وإنه قال “هكذا نجت أبو غوش من التدمير بعكس القرى المجاورة في منطقة القدس، ولاحقا حاول اسحق رابين تهجيرها لولا أن مختارها أكد أن الأهالي لن يوافقوا على الرحيل إلا بعد قتلهم رميا بالرصاص”.
وتساءل نافون: “أهكذا نرد الجميل لأصدقاء مخلصين؟”.
يشار إلى أن تجارب مماثلة وردت في دراسات وتقارير صحافية، منها التعامل اللاإنساني مع متعاوني جنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000، ومن أبرزها كتاب لياير رافيد، نائب سابق لرئيس الموساد “الساحة الخلفية” الذي يروي كيف عومل هؤلاء من قبل جهات إسرائيلية معاملة الكلاب.