«الجرينة» في حيفا… مسجد عثماني حارس للهوية والتاريخ

لا يمكن لأيّ زائر لحيفا إلّا أن يلحظ إسلاميّة طابع المدينة القديمة حين يرى قسمًا من مساجدها ومآذنها لا يزال قائما رغم أن بعضها موصد، وثلاثة منها في شارع واحد: مسجد «الاستقلال» وهو المسجد الّذي ارتبط ذكره بالشّيخ المجاهد عزّ الدين القسام حيث كان خطيبًا فيه ، ومسجد الظاهر عمر، ومسجد الجرينة المعروف بمسجد النّصر أو المسجد الكبير.
ويوضح المؤرخ البروفيسور محمود يزبك لـ القدس العربي أن هذا المسجد بناه العثمانيون عام 1775 تزامنا مع قضاء الدولة العلية على الظاهر العمر الزيداني، وله عدة تسميات منها «الكبير» و «النصر» ويبعد عنه نحو 30 مترا مسجد تاريخي آخر، هو المسجد الصغير. ويشير يزبك إلى أن قائد القوات البحرية العثمانية القبطان حسن باشا الجزائري هو من أسماه بـ «النصر» بعد الانتصار على ظاهر العمر الزيداني.
وتابع «كان الجزائري قد قاد حملة على ظاهر العمر الزيداني برا وبحرا فبنى مسجد الجرينة في حيفا ورمم مسجد يافا الكبير». وأوضح أن جامع الجرينة تمتع بمكانة مركزية في حيفا ومن هنا تسميته بالكبير. ولاحقا وبسبب موقعه في ساحة الجرينة صار يسمى على ألسن الناس بشكل غير رسمي مسجد الجرينة، وهذه كلمة آرامية الأصل (غورن) تعني الساحة المفتوحة أو البيدر حيث كانوا يضعون فيها الحبوب.
وقال إن الجزائري عيّن عائلة السهلي من قرية بلد الشيخ قضاء حيفا كمتولية للوقف في المسجد بفضل أبنائها العلماء والشيوخ والأئمة، ولذا لاحقا سميت العائلة بـ «الخطيب»، وهناك شارع فرعي قريب من المسجد يدعى «الخطيب». وقبيل النكبة كان مفتي حيفا محمد مراد الخطيب قد كتب في أربعينيات القرن الماضي كتابا عن المدينة وعن المسجد الذي لعب دورا مهما في المدينة قبل أن يحول الشيخ المجاهد القسام مسجد الاستقلال الى مسجد مركزي ومركز سياسي في حيفا خلال فترة الانتداب البريطاني.
«القدس العربي» زارت مسجد الجرينة الذي يستخدم أهالي حيفا قاعاته الواسعة لإقامة بيوت عزاء، والتقت الشيخ رشاد أبو الهيجا ابن قرية عين حوض، إمام وخطيب المسجد ولديه علم وإلمام كبيران في كلّ ما يخصّ المكان.
حين استفسرنا منه عن معمرين عاصروا المسجد في فترة النكبة قال: «قد تجد اليوم مصلّين بسنوات السبعين والثمانين، لكن حتّى هؤلاء لن يذكروا شيئًا عن فترة النكبة إذ كانوا أطفالًا، عدا عن أنّ غالبية سكّان حيفا اليوم هم ليسوا أهلها الأصليين، لافتا إلى أن بعض كبار السنّ معلوماتهم غير دقيقة. موضحا أن المسجد يدار حاليًا من لجنة الأمناء لكنه مسجل كوقف للاستقلال تديره لجنة متولية الوقف معينة من قاضي المحكمة الشرعية. ويشير أبو الهيجا في الأساس إلى أن قرب المسجد من البحر ما زال يؤثّر على جدرانه التي تعاني من الرطوبة رغم عملية ترميم واسعة شهدها عام 2009 مما دفع السلطات الإسرائيلية للتهديد بهدمه «حفاظا على سلامة المصلين».
ويقع المسجد التاريخي في منطقة سوق حيفا التاريخية حيث كانت تُستقبل البضائع في محيط المسجد من بلاد سوريا والعراق، ومنها تنطلق بالحناطير التي كانت تنتظر في ساحة الحناطير المجاورة (دوار باريس اليوم) إلى قرى ومدن البلاد.
ويستذكر أبو الهيجا أن المسجد لم يغلق بعد النكبة لكنه عانى من الإهمال الشديد وقد وُكّلت بالمسجد لجنة معيّنة أبرمت اتّفاقية لبيعه قبل أن يتنبه أهالي حيفا للأمر عام 2008 فتوجّهوا للمحكمة وألغوا الاتفاقية. ويستذكر أبو الهيجا أيضا محطات في مسيرة المسجد العثماني هذا بقوله إنه حينما استشهد المجاهد الشيخ عزّ الدين القسّام في 1935 حاصر الإنكليز مسجد الاستقلال الذي كان به خطيبًا، فأحضر جثمانه لمسجد الجرينة للصلاة عليه وانطلاق الجنازة منه. موضحا أن للمسجد مرافق يمكن المبيت بها، ووجد مشيعون للقسام قدموا من دول عربية ومن أرجاء فلسطين في المسجد مكانا للمبيت داخل غرف أعدت بالأصل لاستضافة المارين المسافرين من المنطقة.
وعلى بعد أمتار قليلة بنت بلدية حيفا عمارة الصاروخ، وهي كتلة إسمنتية عملاقة تشبه الصاروخ لم تقو على طمس معالم مسجد الجرينة. ويصلي في المسجد اليوم أهالي حيفا وزوارها وفيه قاعة عزاء في المسجد تجمع سكان المدينة علاوة على كونه مركزًا دعويًا، وعدا عن الاحتفالات في المناسبات الدينية، هناك درس أسبوعي وعمل دعوي مكثّف في رمضان. ويخلص أبو الهيجا للقول «للأسف عدد قليل من الشباب المسلمين يحضرون للتعرف على المسجد وتاريخه، على عكس اليهود الذين يحضرون تباعًا مستفسرين عن كل شيء». وتابع «أدعو شبابنا للاهتمام بتاريخ بلادنا ومساجدنا فهذا جزء من تاريخ شعبنا في البلاد. أثلج صدري حضور طلاب مسلمين من بلدة عسفيا قبل أيام للتعرف على المسجد، وأسأل الله أن يكثر من أمثالهم».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *