يعجز علم السياسة عن تحليل السلوك السياسي العربي، حتى باتت كل قوانينه لا تستوعب كل هذا الإسفاف، الذي نراه يدور في حلقة مفرغة في كل قطر من أقطار أمتنا العربية. لقد أعجز هذا اللامنطق كل الشرفاء العاملين في الحقل السياسي، حتى باتوا فاغري الأفواه عجزا عن تحديد البوصلة العربية إلى أين تتجه، ولمن تتوجه، وما هو الهدف. ففي كل يوم نجد الزعامات العربية تهرول إلى محطة سياسية جديدة يدعوهم لها أعداء الأمة، فيضعون كل الجهد المادي والمعنوي لنا ولأجيالنا في خدمة هدف مغرض، ومقصد يحط من قدرنا ويهدد مستقبلنا، من دون أن يسأل أحد نفسه عن الحصيلة من وراء ذلك.
فعلى مدى يومين عُقد مؤتمر وارسو تحت شعار (تشجيع الأمن والاستقرار في الشرق الاوسط ) وسط حضور عربي قوي وإسرائيلي أقوى. ولو أمعنا النظر في كل الكلمات التي قيلت والتصريحات التي صدرت، والفيديوهات التي سُربّت من كواليس المؤتمر، لوجدنا أن كل مقاساته كانت مفصلة كي نذهب سريعا للتطبيع مع إسرائيل. فوزير الخارجية الامريكي بومبيو قال «أود أن أشير بداية إلى العشاء التاريخي الذي تم أمس. قادة إسرائيليون وعرب اجتمعوا في الغرفة نفسها على مائدة واحدة وتبادلوا الآراء. هم جاءوا في الحقيقة لسبب واحد هو النقاش بشأن ما يهدد الناس في الشرق الاوسط» ثم أردف قائلا «إنهم تقاسموا اليوم الخبز معا». وفي خضم كل هذه البهرجة وتفخيم الحدث، أما من مسؤول عربي يسأل نفسه، من الذي هدد ويهدد يوميا الأمن والاستقرار في الشرق الاوسط؟ من الذي غزا واحتل العراق وجعله يعيش في مجاهل التاريخ القديم، وأعطاه لقمة سائغة إلى إيران؟ ومن الذي غزا ليبيا ووقف متفرجا على الحرب في سوريا؟ ومن الذي استخف وسخر من دول الخليج وابتزهم من أجل المال؟ ومن الذي اعترف بالقدس العربية عاصمة أبدية لاسرائيل ونقل سفارة بلده اليها، وضرب عرض الحائط كل القرارات الدولية التي تؤكد الحق العربي؟ أليس من فعل كل ذلك، الولايات المتحدة الامريكية التي نظمت هذا المؤتمر؟ فكيف نحتكم إلى الجلاد الذي أذاقنا كل هذه المرارات والويلات؟
عصر عربي يعاني فيه القادة من أمية الوعي السياسي، ومن عدم القدرة على تحديد الاولويات في مواجهة التحديات
نعم، نستطيع أن نفهم بأن إيران باتت تهديدا كبير لانظمتنا السياسية، ونمط حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ونسيجنا الاجتماعي وأهدافنا الوطنية. وأن حدود نظرية الأمن القومي في عقل صانع القرار الايراني ليس لها حدود معروفة. كما لم تعد تخفي طموحاتها في السيطرة على مقدراتنا، حتى باتت تعلن ذلك متفاخرة بأنها تسيطر على أربعة عواصم عربية، وتنزل ميليشياتها في كل منطقة عربية، وتضع نفسها زعيما ومتحدثا رسميا باسم طائفة معينة من ديننا. وتذكرنا دائما بأنها كانت امبراطورية تسيطر على بلداننا، وتحتل جزءا من أراضينا في الخليج، وتضعنا كهدف لها في كل تهديد تتعرض له من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا مفهوم ونعيشه واقعا في منطقتنا العربية، لكن لا يمكن لكل هذه المخاوف أن تجعلنا ننسى أن إسرائيل أيضا عدو وجودي لنا، وكما أن نظرية الأمن القومي الإيراني ليس لها حدود معروفة، كذلك إسرائيل ليس لها حدود دولية معروفة. فكيف لنا أن نتشارك المخاوف من عدو مع عدو آخر؟ وكيف يمكن أن يتحول عدو إلى صديق فقط لانه عدو عدونا؟
إيران عدو مؤكد كما هي إسرائيل وفقا لاستراتيجيتها المعلنة وسلوكها السياسي المعروف، لكن يجب أن لا ننسى أن دولة عربية واحدة هي العراق، استطاعت أن تقف في وجه طموحاتها وأن تجرّعها السم. واليوم السعودية ودول الخليج الاخرى ترسانات كبرى لأحدث الاسلحة، وتتفوق على ما موجود لدى إيران، فلماذا نهرول لنتحالف مع إسرائيل ضدها؟ وهل يستقيم العداء مع إيران في وقت تقيم فيه دول خليجية وعربية أخرى أفضل العلاقات الاقتصادية والسياسية معها؟ دعونا نفهم هذه المعادلة بصورة صحيحة، كيف تذهب الامارات العربية لتكوين تحالف مع إسرائيل ضد إيران وقيمة الاستثمارات الإيرانية فيها تبلغ بحدود 300 مليار دولار، ويقيم فيها ما يقارب المليون إيراني، وأكثر من نصف مليون شركة إيرانية تعمل هنالك؟ كما أن سلطنة عُمان هي الأكثر والأعمق علاقة مع إيران على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاستخباراتية، وهي من تفتح لها الأبواب والنوافذ على العالم الخارجي كي تتفاوض مع أعدائها. وكيف تتحالف قطر استراتيجيا مع إيران أيضا؟
أذن هنالك انعدام تام لأي فهم بأن الأمن القومي العربي وحدة متكاملة، بل هنالك خطأ استراتيجي في تحديد الاولويات في سياستنا العربية. والادهى من كل ذلك هو أننا نجلس مع العدو الصهيوني الذي قتل أطفالنا، واعتقل نساءنا ورجالنا، ونعده صديقا سوف يدافع عنا ضد عدو آخر، ونقتسم الخبز معه، في حين نخطط ونتصرف ونعلن بأننا كعرب لسنا أشقاء، بل أعداء، ونغلق الحدود بين بعضنا، ونخطط لفتح قناة مائية تفصل أخينا العربي عن خريطتنا، أين العقل والمنطق في كل هذا؟
يقول نائب الرئيس الأمريكي «اتفق قادة من المنطقة بأن أعظم تهديد للسلام والأمن في الشرق الاوسط هو جمهورية إيران الاسلامية». هذا يشير إلى أن القادة العرب لم تعد في استراتيجيتهم أن إسرائيل دولة عدوة. وعندما يقول نتنياهو في كلمته أمام المؤتمر «أعتقد أن ما حصل يعد بمثابة نقطة تحول تاريخية، فرئيس الوزراء الإسرائيلي ومجموعة من وزراء دول عربية كبرى التقوا وتوحدوا، وكانوا واضحين بشأن الخطر الكبير الذي تشكله إيران على السلام في الشرق الاوسط»، فهذا يعني أنه الرابح الأكبر في هذا المحفل، وأن من التقاهم أكدوا له بأن حالة العداء قد انتفت بين الطرفين. كما يعني ذلك أن اللقاء الاخير قد تقدم على لقاءات مدريد وأوسلو السابقة في تقديم التنازلات. وهذا صحيح، ففي السابق كانت مصر والاردن ولبنان وسوريا، بينما اليوم كل الدول العربية تجلس معه لتقاسم رغيف الخبز. وهذا ما أكده وزير خارجية البحرين حين اعتبر القضية الفلسطينية مجرد خلاف فلسطيني إسرائيلي لا أكثر.
إننا نعيش في عصر عربي يعاني فيه القادة من أمية الوعي السياسي، ومن عدم القدرة على تحديد الاولويات في مواجهة التحديات، ومن انعدام الثقة بالقدرات العربية، ومن تصعيد الخلافات العربية العربية إلى حالة العداء الاستراتيجي، بينما يهددهم ترامب بأنهم سيلاقون مصيرهم خلال أسبوعين إن تخلى عنهم، وتهددهم طهران بأنهم سيكونون تحت وابل صواريخها وجرائم ميليشياتها، وتجعل إسرائيل قدسهم عاصمة أبدية لها.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية