كتب روبرت كاغان، المعلق المشارك في صحيفة “واشنطن بوست” قائلاً إن الكثير من الأمريكيين لديهم افتتان غريب بفكرة المصلحين الطغاة والرجال الأقوياء ممن يستطيعون “تحديث” وقيادة بلادهم وإخراجها من الرجعية والماضي الجاهل. وكان هذا هو الأمل الذي انعقد على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وهو أمل تلاشى من خلال الضربة التي أمر بها ضد كاتب “واشنطن بوست” جمال خاشقجي في تركيا. فقد تعامل الأمريكيون المتعاطفون مع بن سلمان أو “م ب س” كما صار يعرف كرمز تحويلي يريد إصلاح السعودية وإخراجها من البضاعة الوحيدة التي تتاجر بها وهي النفط ومواءمة الإسلام مع الحداثة. فلو اقتضى هذا سلطة ديكتاتورية خفيفة أو سجن عدد من أعضاء العائلة المالكة والناشطات النسويات والدعاة الإسلاميين المعتدلين والاقتصاديين الذين طرحوا أفكاراً حول رؤيته 2030 فليكن. فالثورة من أعلى هي الطريق لإصلاح المجتمعات التقليدية والمغلقة.
ويرى أن هذا الأمر ليس جديداً، ففي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي شهدت أوروبا بينتو موسوليني وجوزيف ستالين في روسيا وحتى ادولف هتلر.
وفي فترة الحرب الباردة تعاملت الولايات المتحدة مع فرديناند ماركوس في الفلبين ومحمد رضا شاه بهلوي في إيران وبارك تشونغ هي في كوريا الجنوبية وأوغستو بينوشيه في التشيلي كرجال أقوياء حداثيين. وفي فترة ما بعد الحرب الباردة حظيت القيادة الصينية وطريقة تعاملها مع الإقتصاد بإعجاب الأمريكيين.
وتم تبرير الإعجاب بالديكتاتور بناء على تنوعات عرفت بـ “نظرية الحداثة”. فيجب على المجتمعات النامية المرور بمرحلة ديكتاتورية قبل أن تصبح ديمقراطية، وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية. فالحكومات الشمولية هي الوحيدة القادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة، ولن تتوقف عن سياساتها بسبب التضخم أو العجز في النفقات. كما أن المجتمعات غير الغربية عانت من نقص في العناصر الضرورية للحفاظ على الديمقراطية مثل حكم القانون والمؤسسات السياسية المستقرة والمجتمع المدني الحي وكذا الطبقة المتوسطة. ومن هنا ففرض الديمقراطية عليها يعني ظهور “ديمقراطية غير ليبرالية” وراديكالية.
وعليه فدور الديكتاتوريين ضمن هذا الفهم هو تحضير المجتمعات للتحول إلى الديمقراطية من خلال إرساء قواعد الليبرالية. ففي الستينيات قال صموئيل هانتغتون إن ما تريده المجتمعات التي تعيش مرحلة حداثة هو النظام لا الحرية. وفي السبعينيات من القرن الماضي استخدمت الدبلوماسية جين كيرباتريك هذا النقاش للدفاع عن الحكومات الديكتاتورية “الصديقة” وبناء على فرضية أن هذه الأنظمة الديكتاتورية ستصبح ديمقراطية لو دعمتها الولايات المتحدة ضد معارضيها. وإن لم تقدم لها الدعم فستظهر أنظمة راديكالية وشيوعية.
ويعلق الكاتب بأن هذه النظرية أثتبت في عدد من تجلياتها أنها غير صالحة، فقد حصلت كيرباتريك على العكس، لأن الدول الشيوعية هي التي قامت بالإصلاحات التي فككتها وتحولت لديمقراطيات وإن كانت ضعيفة، واستمرت الديكتاتورية في الشرق الأوسط. وفي المناطق التي سحبت أمريكا الدعم عنها مثل تشيلي وكوريا الجنونية فقد تحولت إلى ديمقراطيات. والحقيقة هي ان الديكتاتوريات لم تؤد إلى نمو اقتصادي.
والنمو هذا لم يكن سر الديمقراطية، فقد مضى ربع قرن من التوقعات التي خلقتها التجربة الصينية وظهور الطبقة المتوسطة التي ستقود إلى انفتاح سياسي واسع. لكن الموجة تسير في العكس، فقد عزز الرئيس شي جينيبنغ السلطات في يده وطورت الحكومة ادوات جديدة للسيطرة الاجتماعية والسياسية. وبالنسبة للمستبد المتنور- “الملبر” (من ليبرالية) فهو في النهاية مخلوق نادر. فالطغاة ليسوا ميالين لوضع أسس ميراثهم. فهم لا يقومون بتعزيز القانون ولا فتح المجال للمؤسسات المستقلة أو المجتمع المدني خوفاً من تهديدها عليهم. بل على العكس يحاولون تدمير المؤسسات وقوى المعارضة التي تمثل تهديداً لحكمهم الديكتاتوري. ويتساءل، لماذا نتوقع العكس؟ ويجيب أن علينا توقع هذا لأسباب مختلفة وبعضها عنصري، مثل القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر والتي ناقشت ان بعض الشعوب ليست جاهزة للديمقراطية لأسباب دينية أو تاريخية تقليدية. وهناك سبب نابع من عدم الرضى من الفوضى الديمقراطية التي تجعل من الحنين للرجل القوي أمراً قائماً، فهو الرجل القادر على عمل الأمور. وهناك سبب ثالث يتعلق بالخوف مما ستؤول إليه التجربة الديمقراطية، ففي أثناء الحرب الباردة كانت الدعوة لعدالة اجتماعية واقتصادية وإن كانت على حساب الاستثمارات الأمريكية، أما اليوم فهي مطالب مجتمعية وسياسية متوائمة مع التعاليم الإسلامية. “ونحشى مما سيسمح للناس باختياره ولهذا نفضل الثورة من الأعلى”. وهناك بالطبع مصالح استراتيجية، ففي الماضي احتاجت أمريكا حلفاء ضد الاتحاد السوفييتي أما اليوم فهي بحاجة لحلفاء ضد إيران. وما اكتشفه الأمريكيون في الحرب الباردة وسيكتشفونه اليوم أن الحلفاء هؤلاء قد لا يمثلون حاجزاً. فطرق التعامل مع معارضيهم أدت إلى خلق معارضة راديكالية وثورة محتملة. و” في كل من مصر والسعودية فسنجد في النهاية أن دعم الديكتاتوريين في هذين البلدين سينتج بالتأكيد النتيجة التي حاولنا تجنبها. وستنتهي الأسلحة التي تسولنا إليهم كي يشتروها بيد من طالبناهم بحمايتنا منهم”.
و “اليوم فحلفاء ولي العهد السعودي في الولايات المتحدة يتساءلون، أي درجة من الحماقة وصلها ليأمر بقتل خاشقجي. لكن من هم الحمقى هنا؟ فالديكتاتوريون ديكتاتوريون، ونحن من نعيش في فتنازيا أنانية وقمنا بتشكيلها وهي واحدة قد ترتد علينا وتقرصنا”.