مُعاقبة إيران وإبتزاز السعودية… والهدف واضح !

الكثيرون يتعاطون مع الأحداث والأمور بسطحيّة غريبة، علمًا أنّ أبعاد هذه الأحداث وما يُرافقها من مواقف ومن ضُغوط ومن إجراءات، يدخل في الغالب في سياق خطة مُتكاملة، تكتيّة في بعض الأحيان، وإستراتيجيّة في أحيان أخرى. وهذا ما ينطبق تمامًا على مسألة العُقوبات الأميركيّة المُتجدّدة على ​إيران​، وعلى الضُغوط الأميركيّة المُتصاعدة على ​السعودية​.

بالنسبة إلى العُقوبات الأميركيّة على إيران فهي ليست بالمسألة الجديدة حيث أنّ العُهود الأميركيّة مليئة بإجراءات عقابيّة ضُد إيران، لكنّ عهد الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ تميّز بالتشدّد في هذا المجال، وبالتوسّع في لائحة العُقوبات لتطال دائرة واسعة تضم العديد من القوى الحليفة لإيران، وكذلك قوى تتعامل معها تجاريًا وإقتصاديًا فقط لا غير. وإدارة الرئيس ترامب التي لم تتردّد في الإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران(1)، ماضية قُدمًا في فرض المزيد من العُقوبات على النظام الإيراني، ليس لأنّ طهران أخلّت ببنود هذا الإتفاق بالتحديد، بل لأنّها ماضية في إضعاف النُفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وبضرب مصالح واشنطن ومصالح حلفائها في المنطقة. وفي هذا السياق، وبعد أن أطلقت واشنطن دفعة أولى من العُقوبات الجديدة ضُدّ طهران في 6 آب الماضي(2)، تتحضّر الإدارة الأميركيّة لإطلاق دفعة ثانية من العُقوبات إعتبارًا من 4 تشرين الثاني المُقبل(3). وتهدف ​الولايات المتحدة الأميركية​ من عُقوباتها المُتجدّدة إلى إرغام ايران على وقف التصدّي للمشاريع الأميركيّة الإستراتيجيّة لمنطقة الشرق الأوسط، وإلى تخفيف التدخّل الإيراني العسكري والأمني والمالي ضُدّ المصالح الأميركيّة في المنطقة، عبر توفير الدعم اللوجستي الكبير لقوى وجماعات مذهبيّة مُحدّدة في أكثر من بلد، لمواجهة القوى والدول المحسوبة على واشنطن. وبعيدًا عن المُكابرة الإعلاميّة بأنّ إيران صمدت في السابق بوجه العُقوبات الأميركيّة وأنّها صارت أقوى وما إلى هنالك من إستعراضات إعلاميّة، عانى الإقتصاد الإيراني خلال المرحلة التي سبقت توقيع الإتفاق النووي من ركود حاد، وتراجع نموّ الناتج الإجمالي الإيراني إلى أدنى مُستوياته (بلغ 1,5 % فقط بعد أن كان أضعاف أضعاف ذلك قبل عقد واحد)، وإنخفضت عائدات صادرات النفط الإيراني بشكل مُضطرد أيضًا (من 2,4 إلى 1,4 مليون برميل يوميًا)، وإنهارت قيمة الريال الإيراني وتضخّمت أسعار السلع، إلخ. وبعد فترة إنتعاش قصيرة للوضع الإقتصادي والمالي في إيران، تُحاول واشنطن حاليًا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عبر فرض عُقوبات على الجهات والشركات التي تتعامل مع طهران، بحيث أنّ شركات “بوينغ” و”إيرباص” و”توتال” وغيرها الكثير كانت وقّعت عقودًا بنحو 50 مليار دولار أميركي مع الجمهوريّة الاسلاميّة، لتأتي سلسلة العُقوبات الجديدة لتتسبّب بإلغائها، ولتؤثّر سلبًا بشكل كبير على الوضع فيها. وليس بسرّ أنّ ايران تشهد تظاهرات عدّة إحتجاجًا على تردّي الأوضاع الإقتصادية، وعلى التضخّم، وكذلك على الفساد المالي فيها. ومن المُتوقّع أن تشتدّ هذه التظاهرات، وبالتالي ما يُرافقها من مُواجهات مع القوى الأمنيّة الرسميّة، مع إنطلاق العُقوبات الأميركيّة الجديدة والتي سيكون لها تأثير معنوي كبير يسبق التأثير الإقتصادي السلبي الفعلي الذي يتحقّق مع مُرور الوقت.

بالنسبة إلى الإبتزاز الذي تتعرّض له المملكة العربيّة السُعودية من إدارة الرئيس الأميركي فهو يهدف إلى دفعها إلى تسديد المزيد من الأموال لصالح الولايات المتحدة الأميركيّة، تارة لشراء أسلحة وطورًا للحُصول على الحماية العسكريّة، وكذلك لإرغامها على توفير الغطاء السياسي والمعنوي للمشروع الأميركي الإستراتيجي الخاص بالصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، حيث أنّه ليس بسرّ أنّ الرئيس ترامب يعمل منذ مُدّة على تسويق ما يُسمّى بصفقة القرن، وهي عبارة عن تسوية سياسيّة للقضيّة الفلسطينيّة، تمنح الفلسطينيّين ظاهريًا دولة مُستقلّة في مُقابل حُصول إسرائيل على الأمن وعلى علاقات دبلوماسية مع أكثر من جهة عربيّة. لكن المُشكلة أنّ هذه التسوية ليست مُتوازنة، ويعتبرها الفلسطينيّون والعديد من القوى العربيّة مُنحازة لمصالح إسرائيل، حيث أنّها تضرب عرض الحائط حق إستعادة القُدس، وحقّ الحُصول على دولة فلسطينيّة مُتماسكة ومُسلّحة، وحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيّين، مع ما يعنيه هذا الأمر من تغيير ديمغرافي بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، ومن ضرر على الدول التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيّين وفي طليعتها لبنان. وكل التصاريح والضُغوط الأميركيّة على السعودية في المرحلة الأخيرة، أي قبل أزمة الجريمة البشعة التي أودت بحياة الصحافي السُعودي المُعارض ​جمال خاشقجي​، وخلالها وبعدها أيضًا، تهدف إلى رُضوخ القيادة السعوديّة، وإلى دفعها للمُوافقة على “صفقة القرن”، وخُصوصًا إلى تأمين الغطاء الضروري لتسويقها إقليميًا وعربيًا وإسلاميًا. فتسليط الضوء على جريمة قتل خاشقجي من قبل واشنطن، ليس دفاعًا عن حريّة رأي أو عن قيم إنسانيّة أو أخلاقيّة، حيث يُقتل ويُغتال آلاف الأشخاص والمُعارضين والناشطين في كل دول العالم بشكل دائم، وهذه الجرائم تمرّ للأسف بدون ضجيج إعلامي، ولبنان شهد بنفسه على هذا الأمر في مرحلة الحرب، وحتى بعدها وتحديدًا في مرحلة ما بعد العام 2005 عندما جرى إغتيال العديد من الشخصيّات ومن بينها الصحافي سمير قصير والنائب السابق الإعلامي جبران تويني، إضافة إلى مُحاولة إغتيال الإعلاميّة مي شدياق. لكنّ هذه الجرائم كانت تمرّ من دون الضجيج الصاخب الذي رافق قضية قتل خاشقجي، لأنّ المسألة هنا مُرتبطة بإستغلال قضيّة مُحقّة، لإبتزاز المَعنيّين بها ولدفعهم إلى تقديم تنازلات كثيرة مطلوبة منهم، سياسيًا وماليًا.

في الخُلاصة، إنّ مُعاقبة إيران وإبتزاز السعوديّة من جانب الإدارة الأميركيّة يصبّ في خانة واحدة في نهاية المطاف، حيث أنّ الهدف منه تمرير “صفقة القرن” بالقُوّة. فهل تنجح الخطّة الأميركيّة؟.

(1) الإتفاق كان وُقّع في نيسان من العام 2015، بعد مفاوضات ماراتونيّة بين إيران وكل من أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا، ليطوي في حينه أزمة إستمرّت لمدة 12 سنة بشأن “برنامج إيران النووي”.
(2) طالت قطاعات صناعيّة لإيران، مثل السيارات والسجاد وتصدير المُنتجات على أنواعها، وفرض عُقوبات على الشركات التي ستتعامل مع إيران، خاصة في قطاع تطوير أسطولها الجويّ المدني.

(3) ستشمل خُصوصًا فرض عُقوبات على الشركات التي تتعامل مع إيران في قطاع النفط والبتروكيمائيّات والطاقة، وكذلك في قطاع المصارف والخدمات المالية، إلخ.النشرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *