ناصر قنديل – صحيفة البناء
يفتح بعض المتنمّرين جدلاً عنوانه العلاقات الروسية الإسرائيلية من باب التسويق لمقولة أولوية هذه العلاقات على كل شيء آخر في السياسة الروسية. وهم ينطلقون من تداعيات سقوط الطائرة الروسية قبالة الساحل السوري، من دون أن يبلغونا عن مصدر معرفتهم بأن لـ»إسرائيل» يداً في سقوط الطائرة لو لم تكن موسكو هي مَن قال ذلك، فيفتحون سجلاً للغارات الإسرائيلية بطريقة تنضح بالعداء للمنطق والحقيقة، وهم يقولون إن «إسرائيل» تصول وتجول في الأجواء السورية أمام الأعين الروسية وبرضاها، متجاهلين أنه منذ سنة ونصف لم تجرؤ «إسرائيل» على دخول الأجواء السورية، وأنها تنفّذ غاراتها من البحر أو من الأجواء اللبنانية، لأن الدفاعات الجوية السورية التي أشرفت روسيا على إعادة تأهيلها رسمت بقرار من الرئيس السوري خطاً أحمر منذ إسقاطها أول طائرة إسرائيلية في الأجواء السورية.
نعود للسؤال، الذين يتحدثون عن أن العلاقة بإسرائيل تبلغ مرتبة القدسية بالنسبة للقيادة الروسية مطالبون بإبلاغنا بمصدر، غير البيانات الروسية، معرفتهم عن دور إسرائيلي في سقوط الطائرة الروسية، والسؤال هو: هل كانت موسكو مضطرة لهذا الإعلان، وكل شيء كان يسمح بختم الحادث تحت عنوان نيران صديقة في ظروف اشتباك، أي أن صاروخاً سورياً في حال اشتباك أصاب عن طريق الخطأ الطائرة الروسية؟ فلماذا تعمّدت روسيا فتح باب لم يفتحه عليها أحد عن الدور الإسرائيلي؟ ليبيح المتنمرون لأنفسهم استعمال هذا التعمد الروسي في عكس معناه الطبيعي، ويستهترون بعقول الناس ويستغبونها بادعاءاتهم وفرضياتهم المناقضة للسؤال الأصلي. وهو لماذا تعمدت روسيا الإشارة لمسؤولية إسرائيلية ليس لها من مستند إلا ما قالته موسكو نفسها، وسقوط الطائرة لم يتم بتصادم روسي إسرائيلي أصلاً؟
لا يحتاج أي رئيس لروسيا لعقل جنرال في المخابرات ليعرف أنه عندما يقرّر التموضع في سورية تحت عنوان استعادة الدولة السورية سيادتها، فإنه يتموضع على خط تماس مفتوح مع رعاة مشروع تدمير هذه السيادة. وهم بالأولوية إسرائيل والسعودية وأميركا، ويكفي عقل رقيب في المخابرات الروسية لمعرفة ذلك، ولا حاجة لعقل الرئيس فلاديمير بوتين وخبرته الأمنية وفهمه للاستراتيجيات، وأبسط التحديات هو التفكير بالإجابة عن الاستعداد لإدارة هذا الصراع الذي يشكل الفوز فيه هزيمة للثلاثي الأميركي الإسرائيلي السعودي تريده روسيا من دون إسالة الدماء والتصادم المباشر معهم. ومراقبة مسار السنوات الثلاث للتموضع الروسي تقول بوضوح إن درجة تمسك موسكو بمفهوم بسط السيادة السورية على الجغرافيا لم تعرف المساومة، وأن تنمية المضمون السيادي للخطاب السياسي لصالح مرجعية الدولة السورية واضحة بقوة في الخطاب الروسي نحو واشنطن وأنقرة وتل أبيب، وأن تنمية مقدرات الجيش السوري بما يتناسب مع فرض الحضور السيادي لدولته يتمّ بقرار سوري، لكن بدعم روسي واضح.
يسهل على عقل طبيعي أن يستنتج أن روسيا تدرك أن بلوغ نهاية الحرب مع الجماعات المسلحة والإرهابية، وما يعنيه من قرب نهاية الوجه المسلح للصراع سيطرح إشكالية السيادة على الأجواء السورية كخط اشتباك مع «إسرائيل»، وأن لا بد لموسكو من حسم هذه السيادة لصالح الدولة السورية، فالصراع حول وجود أراضٍ محتلة لسورية من قبل «إسرائيل» سيبقي حال التوتر، وموقع سورية في محور المقاومة والعلاقة السورية الإيرانية والعلاقة السورية بحزب الله ستجعل الدور الإسرائيلي أكثر عدائية، وتركه يتحكم بصياغة المشهد العسكري يعني رفع منسوب التوتر والفعل ورد الفعل وصولاً لتعريض كل الإنجازات المحققة في سورية للتآكل والاهتراء، والمخاطرة بتفكيك الإنجازات الداخلية العسكرية وإعادة استنهاض الجماعات المسلحة في توقيت جديد.
لأن الإعلان الروسي هو مَن أبلغنا بدور إسرئيلي في سقوط الطائرة الروسية ورفعه لمستوى الدور المتعمّد علينا قبل التذاكي على الروس التساؤل عن سبب الإعلان. وهو له مبرر واحد، الإعلان عن سقوط آليات التعاون السابقة لمنع التصادم، والتمهيد لحسم الازدواج الجوي فوق سورية لحساب أحادية يمثلها التعاون السوري الروسي، وصولاً إلى اعتبار الحركة الإسرائيلية قبالة الأجواء السورية عملاً عدوانياً يستحق التعامل المشروع دفاعياً، ولا بد من الانتباه هنا إلى أن حكاية الصواريخ أس 300 وتسليمها لسورية صارت ممجوجة في تساؤلات المتنمّرين، بينما قضية تظهير وجودها من عدمه تخصّ الجيش السوري وحده، لأنها عندما تظهر غداً في أول مواجهة جديدة، سيخرج المتنمّرون كما خرجوا من قبل ليقولوا، وأين الـ»أس 400»؟ وربما تبلغ السخافة ببعضهم حد اعتبار إسقاط طائرة إسرائيلية مجرد مسرحية متفق عليها لحفظ ماء الوجه، وكأن فوز الدولة السورية في الحرب لم يكن هو الهزيمة الأصلية لـ»إسرائيل»، وقد تمّ بدعم روسي لا لبس فيه؟