كتب توم لفينسون مقالًا في صحيفة “هآرتس الإسرائيلية”، نقل فيه شهادات وصّفت حال خمسة جنود “إسرائيليين” أنهوا المرحلة الثانوية قبل أشهر فقط، وأُلقي بهم مباشرة في أتون الحرب على غزّة، ليواجهوا واقعًا قاسيًا يتجاوز قدراتهم النفسية؛ حتّى قال أحدهم: “لن نعود كما كنا.. غزّة غيّرتنا للأبد”.
بين نوبات الغضب، الخوف، والإنهاك الذهني، يتحدث الجنود عن فقدان الأمل وتحوّلهم من مراهقين إلى أشباح تحاصرهم الصدمة. تقف أمام الكاميرات، عيناها حمراوان، صوتها متهدج، الدموع تتدفق، لكنّها لا تحاول مسحها أو كبحها. المقدِّم يطلب منها أن تتحدث عن ابنها. هو معتاد على مثل هذه الأسئلة، أما هي فلا. ومع ذلك، تؤكد أنها لم تتفاجأ. توضح أنه “منذ السابع من أكتوبر ونحن نعيش في قلق دائم. كلّ طرقة، كلّ مكالمة هاتفية”.
ثم تقرّر أن تخرج عن قواعد اللعبة. بدلًا من أن تتحدث عنه، وبدلًا من أن تعلن أنه لم يكن له مثيل في العالم، تطلب أن تقول شيئًا آخر: “منذ أن أنهى الصف الثاني عشر وهو في قتال لم ينتهِ. لقد كان مرهقًا بالفعل، الجميع هناك مرهقون. صعب عليهم من جميع النواحي الذهنية. إنهم مستنزفون”، قالت “يجب أن نوقف هذا”.
حدث ذلك الأسبوع الماضي، بعد يوم من مقتل ابنها، الرقيب أول نيف راديا، مع ستة من زملائه في انفجار عبوة ناسفة جنوب قطاع غزّة. كلمات الأم، ألكسندرا، في القناة الأكثر مشاهدة في الكيان، فاجأت الكثيرين، وربما حتّى هزّت بعض الأسس. كان ذلك لحظة نادرة انشقّ فيها بعض الشيء الجدار الذي حاول الجيش بناءه بين الجمهور وبين ما يمر به جنود الخدمة النظامية على مدى أكثر من 20 شهرًا من القتال. صوت جنود الاحتياط يسمعه “الجمهور” كثيرًا، يشتكون من الضرر على الأعمال التجارية، على الحياة الأسرية، وأيضًا من التمييز تجاه مجموعات لا تخدم. أما ما في أروقة قلوب جنود الخدمة النظامية، فإن معظم الجمهور لا يسمعه ولا يعرفه.
وتتابع والدة الرقيب أول: “حتّى عندما يُسمح للصحفيين بمرافقة قوات الخدمة النظامية المقاتلة، فإنهم لا يُكشف لهم الواقع الحقيقي. إنها مجرد مسرحية. الجنود الذين تُجرى معهم مقابلات يتم اختيارهم بعناية من قبل القادة وممثلي الناطق باسم الجيش، ويتلقون إحاطة، ما يُسمح وما لا يُسمح قوله. وهكذا يعود الصحفيون بنفس الأوصاف: “هذا جيل من الأسود”.. “المعنويات في السماء”.
لكن جنود الخدمة النظامية الذين تحدثوا إلى صحيفة “هآرتس” في الأشهر الأخيرة يوضحون أن المسافة بين هذه الأوصاف وبين الواقع في رفح وخان يونس شاسعة كالمسافة بين التصريحات عن “نحن على بعد خطوة من النصر” وبين الواقع الحقيقي. يصفون تآكلًا متزايدًا، آثارًا جسدية ونفسية شديدة، وخوفًا قاتلًا من أن يكونوا هم التالين في قائمة من سُمح بنشر أسمائهم. معظمهم رفضوا السماح بنشر أقوالهم، لكن خمسة وافقوا. وكان لديهم طلب واحد فقط: “أرسلتمونا إلى المعركة، الآن استمعوا لما لدينا لنقوله”.
يوناتان: لم أتمكّن من الأكل.. كان لكل شيء طعم الدم
يروي يوناتان (21 عامًا) من منطقة المركز في لواء كفير تجربته قائلًا: “حدث ذلك بعد دخولنا إلى جباليا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. في الصباح أنهكتنا الحرارة، وفي الليل تجمدنا من البرد. الرمال والغبار كنت تلتصق بجلدي طوال الوقت. بالكاد رأينا أشخاصًا، فقط كلاب تتجول في كلّ مكان، كانت تبحث عن الطعام، أي شيء، حتّى بقايا عفنة. قال قائد السرية إن من يجرؤ على مداعبتها “سيُحال إلى المحكمة وسيُزج به في السجن”. لكنني لم أكترث، كنت أقطع لها قطع كابانوس عندما لا ينظر أحد، وأوزعها عليها”.
ويضيف “بعد عدّة أيام، عندما كنا عند مدخل أحد البيوت، اقتربت منا مجموعة من الكلاب وبدأت تنبح دون توقف. غضب نائب قائد السرية وقرر أن يطلق النار على أحدها. صرخ الكلب من الألم ثمّ سكت. بدأت الكلاب الأخرى بالهرب، لكنّه واصل إطلاق النار، صوب وأطلق النار على كلب ثانٍ، ثمّ على عدة كلاب أخرى. “لتعرف ألا تقترب منا، هذه كلاب مخربين، من المحتمل أن تكون مصابة بداء الكلب”، قال وهو يبتسم. غضبت كثيرًا، لكنني لم أقل شيئًا. في تلك الليلة شعرت بالعار لأنني لم أجرؤ على التحدث، لأنني لم أحاول منعه”.
وفي الصباح أُرسلنا لمهمة أخرى لتطهير المنازل. “مسحنا” أحدها بطائرة من دون طيار ولم نر شيئًا، فدخلنا. بعد دقيقتين وقع انفجار. طرت من شدة الضغط ولم أفهم ما الذي حدث. فجأة وجدت فمي مليئًا بالدم. اعتقدت أنني أصبت، لكن في الواقع لم يحدث لي شيء. فقط لاحقًا فهمت أن ذلك كان دم صديقي المقرب في الفصيل. كان يناديني باسمي مرارًا وتكرارًا، يطلب مساعدتي، لكنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. تجمدت مكاني.
ويختم “في النهاية وصل الأصدقاء من محطة الجمع الكتائبية وأخلوه. لأيام لم أستطع النوم، ولم أتمكّن من الأكل. كان لكل شيء طعم الدم. واصلنا تطهير البيوت وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن كلّ شيء على ما يرام. بعد ذلك خرجنا للإنعاش، لكنني شعرت أنني لا أستطيع فعل أي شيء. شعرت وكأن أحدهم امتص جزءًا من روحي”.
أور: تقدمت في العمر عشر سنوات
من جهته، المستوطن أور (20 عامًا) من منطقة شارون، في وحدة المظليين الخاصة يروي تجربته فيقول: “لحظة انهياري لم تكن في لبنان أو خان يونس، بل كانت في ديزنغوف. بعد وقت طويل لم نخرج فيه إلى البيت، وافقوا أن نخرج لمدة 48 ساعة. كان ذلك أسبوعًا بعد عيد ميلادي وأراد والداي أن نحتفل في مطعم مع كلّ العائلة. كنت فقط أريد البقاء في البيت والنوم، لكن لم يكن من اللطيف أن أخيب ظنهم. عندما وصلنا، الجميع سأل كيف الأمور هناك، وأنا فقط قلت “تمام” بشكل عادي جدًا”.
ويضيف “طلبت باستا بالقريدس. عندما وصل الطبق شعرت أن كلّ شيء يرتفع في داخلي، وأنني على وشك التقيؤ. ركضت إلى الحمام وتقيأت كما لم أتقيأ في حياتي. بعد ذلك غسلت وجهي ونظرت في المرآة، وكنت أبدو فظيعًا، كأنني تقدمت في العمر عشر سنوات. عندما عدت، نظرت جدتي إلي وسألت، “هل كلّ شيء بخير؟ أنت أبيض كالكلس. لم أعرف ماذا أجيب، فقط أردت الهروب منهم، أن أختفي”.
ويتابع “في هذه الأثناء، استمر الجميع في الأكل، والروائح أنهتني، فكرت أنني على وشك التقيؤ مرة أخرى. سألوا مرارًا وتكرارًا: “لماذا لا تأكل؟”. لم أستطع الإجابة. الرائحة أزعجتني، لم تخرج من جسدي. في البداية لم أفهم لماذا يحدث هذا، ثمّ أدركت: هذه رائحة جثث”.
عومر: أكثر ما أتذكره هو رائحة الموت في غزّة
المستوطن عومر (21 عامًا) من القدس، في لواء جفعاتي يروي تجربته في الحرب أيضًا فيقول: “أحيانًا عندما أفكر في ذلك يصعب عليّ تصديق أنّ هذه الحرب استمرت فقط عشرين شهرًا، وليس عشر سنوات. كنت هناك منذ البداية، عندما أرسلونا إلى الكيبوتسات في محيط غزّة بعد بضع ساعات فقط من بدء كلّ شيء. حتّى اليوم لا أستطيع أن أتخلص مما رأيته هناك، لا أستطيع استيعاب الأمر. سيارات محترقة، الناس يصرخون، إطلاق نار، انفجارات. أكثر ما أتذكره هو رائحة الجثث في مدينة غزّة؛ رائحة الموت، مثل رائحة شريحة لحم تُركت على الشواية”.
ويتابع “لكن الحقيقة أنني لا أتذكر الكثير من الأشياء، ساعات كاملة محذوفة من ذاكرتي. ماذا فعلت هناك؟ حتّى اليوم لا أعرف، ولم يكن هناك وقت للتفكير في ذلك على الإطلاق. مباشرة بعد 7 أكتوبر بدأنا الاستعداد للدخول. كنا في حالة نشوة، كنا نريد ذلك بشدة. اليوم يبدو لي الأمر غبيًا جدًا. لم أعد أستطيع عدّ الأشخاص الذين عرفتهم وقُتلوا. من الكتيبة، من اللواء، من المدرسة، من الحي. لم يعد لدي طاقة للسماع عن آخر، هذا يحطمني”.
يائير: نحن منهكون
أما يائير (21 عامًا) من منطقة هشارون، في وحدة ناحل الخاصة يقول: “كنا عشرة أشخاص. كانت الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل. كمين عادي في شمال القطاع، على ما أعتقد بجانب بيت لاهيا. فجأة استيقظت مذعورًا ورأيت الجميع نائمين، حتّى الضابط. أيقظته، فارتبك وبدأ يوقظ كلّ الجنود، وصرخ عليهم كالمجنون. كان الأمر غريبًا، أظن أنه نسي أن هذا قد يكشفنا، لكن لم يكن لأحد الجرأة ليوقظه. “أنتم مجموعة حمقى، صرخ قائلًا: هل تريدون أن نموت هنا؟ هل أنتم أغبياء؟” كان في حالة هياج، كأنه فقد صوابه، كأنه فكك شيئًا كان يجلس عليه لأشهر. في اليوم التالي أخذني جانبًا وأقسم لي ألا أخبر أحدًا خارج الفريق بأنه نام”.
ويضيف “لم تكن هذه المرة الأولى التي يحدث فيها شيء من هذا النوع، والحقيقة أن كلّ جندي خدم في القطاع يعرف هذا. لا ننام في النهار، ثمّ يُطلب منا القيام بمهمات في الليل، ونحن منهكون. قد يكون غريبًا قليلًا الاعتراف بذلك، لكن من المدهش أن حماس لا تستغل هذا أكثر. في كلّ مرة يحدث حادث خطير في الأخبار، ينتقدوننا ويسألون كيف يمكن أن يحدث هذا. لكن كيف نتوقع نتيجة مختلفة ونحن نحارب شهورًا بعد شهور، ونكاد لا نخرج إلى المنزل؟”.
أوري: لا تدعوا كلّ هذا الموت يستمر
أما أوري (22 سنة) من منطقة الشمال في وحدة يهلوم يتحدث عن تجربته فيقول: “في مرحلة ما توقفت ببساطة عن الإيمان بما نقوم به. في السنة الأولى كنت متحمسًا جدًا لكل عملية، مؤمنًا أنّنا جزء من حدث تاريخي، أنّنا ندافع عن مواطني الدولة، أننا نساعد في إنقاذ المختطفين. لكن شيئًا فشيئًا بدأت أشك. بعد أن تسمع عن مختطف آخر قُتل بسبب القصف، بعد أن تذهب إلى جنازة صديق آخر، يبدأ هذا الشيء بالاختفاء”.
ويضيف “لم أعد قادرًا على الذهاب إلى عملية أخرى، للعودة إلى نفس المناطق التي كنا فيها مليون مرة، للتحقيق في فتحة نفق أخرى، للدخول إلى مبنى آخر يُشتبه بأنه مزوّد بالألغام، ومن أجل ماذا؟ فمن الواضح لكل من لديه قليل من العقل أن هذه الحرب تستمر لأسباب سياسية. لا يوجد سبب للاستمرار. نحن لا نحقق أي شيء، فقط نعرض أنفسنا للخطر مرة بعد مرة. حتّى القادة لم يعودوا يعرفون كيف يبررون ذلك، كيف يقنعوننا بالاستمرار. باستثناء المتدينين، لا أحد يفهم بعد الآن ما الذي نقوم به. لا أحد يصدق بعد الآن أننا نساعد في إعادة المختطفين، نحن فقط نعرضهم للخطر”.
ويتابع “بكل مرة أقترب فيها من فتحات الأنفاق، كان يخطر ببالي: ربما الاستخبارات مخطئة؟ ربما هناك أسرى؟ ربما المخربون يسمعوننا ويقتلونهم؟ وإذا حدث ذلك، كيف سأتمكّن من العيش مع نفسي؟ كيف سأستمر؟ سيقول الضباط إن هذا خطأ، وإنه هكذا تكون الحروب، وسأضطر أن أعيش مع العار ومشاعر الضمير. لا أحد سيساعدني. كما حدث مع أصدقائي الذين أصيبوا، لا أحد يهتم بهم. هناك من الضباط من لم يزعج نفسه حتّى بزيارتهم. لقد تُركوا وحيدين”.
ويختم “لحسن حظي، سأخرج من الخدمة قريبًا، لكن ماذا عن الباقين؟ أنظر إلى الشباب في الوحدة ولا أستطيع إلا أن أتساءل: من سيُسمح له بالعيش ومن سيُدفن في التابوت؟ هذا أمر رهيب، لكنّه واقعنا. يجب أن يتوقف هذا، من مات لا يمكن إنقاذه، لكن لا يزال هناك الكثير من الممكن إنقاذه. متى ستفهمون أن الوقت قد حان للتوقف؟ عندما يصل عدد الضحايا إلى 900؟ إلى ألف؟ أرجوكم، توقفوا. اصرخوا، تظاهروا، لا تدعوا كلّ هذا الموت يستمر”.