كاتبو التقرير من قبل الأكاديمية الإسرائيلية لعلوم دراسات الكارثة في الجامعات والكليات الإسرائيلية، أظهروا أملاً بأن “يحرص الباحثون الإسرائيليون ومعاهد الأبحاث في البلاد على أن لا يساهموا في تشويهات التاريخ الممنهجة التي تقف من ورائها حكومات وهيئات حكومية ووكالات حكومية في أرجاء العالم، التي تؤدي إلى القليل من درجة الدور المباشر أو غير المباشر لدول أو شعوب في المسؤولية عن الكارثة. بروح هذه الأقوال الصحيحة، يجب أن نضيف بأنه من المفروض على الباحثين الإسرائيليين عدم التعاون مع توجهات متنوعة لتشويه تاريخ الكارثة واللاسامية، مهما كانت أهدافها السياسية والأيديولوجية.
إحدى الجهات شبه الحكومية في العالم، التي تساهم في جزء من نشاطها في الرؤية المشوهة للاسامية الحديثة هي “الحلف الدولي لذكرى الكارثة”، الذي يضم 33 حكومة، ويعمل في مجال التعليم والذكرى وأبحاث عن الكارثة. كاتبو التقرير الذين يقيم عدد منهم علاقات مع هذا الحلف، يعترفون بأن التعاون مع مثل هذه المنظمات هو “مهمة غير سهلة”، هكذا ورد في التقرير. من جهة، كتب في التقرير بأن للمنظمة حقوقاً كثيرة في النضال ضد تشويه ذكرى الكارثة في عدد من الدول الأوروبية. ومن جهة أخرى، الهوية الفكرية والعامة لهذه المنظمة، يعد “تعريف عمل” المنظمة لظاهرة اللاسامية من العام 2016، متحيزاً ومشوهاً من ناحية أيديولوجية، بل ويعكس فشلاً بحثياً عميقاً، وربما إفلاساً أكاديمياً.
تعريف عمل هذا الحلف ينص على أن “اللاسامية هي رؤيا محددة لليهود، ويمكن أن تظهر ككراهية تجاههم”، هذا هو، هذا غير صحيح، تعريف ما بعد الحداثة بدرجة ما (بمعناه المبتذل – “كل شيء يسير”). عفواً: تحت تعريف ضبابي وغير واضح المعالم من هذا النوع، يمكن أن يتضمن الكثير من الرؤى عن اليهود، سواء تلك التي تعبر عن كراهيتهم، أو تلك التي لا يوجد فيها بالضرورة كراهية تجاههم، أو تلك التي لا يوجد فيها بالضرورة كراهية لإسرائيل.
المثال الأكثر غرابة على “رؤية لاسامية”، الذي تعرضه المنظمة –نموذج تنسب إليه أهمية كبيرة، لأن من كتبوا وثيقة تعريف العمل، كرروه مرتين – موضوعها النقد الموجه لدولة إسرائيل، نقد “لا يشبه النقد الموجه لدول أخرى”، بل يتبنى بالنسبة لإسرائيل “معايير مزدوجة” مع وضع مطالب استثنائية من غير المتوقع أن تلبيها أي دولة ديمقراطية أخرى.
من له عينان في رأسه يدرك بأن الأمر يتعلق بعرقلة مدمرة لأي احتجاج دولي ضد نظام الاحتلال والاستيطان والأبرتهايد لإسرائيل. فإسرائيل تتصرف بهذا الشكل منذ أكثر من خمسين سنة وبصورة لا تشبه سلوك أي دولة ديمقراطية أخرى، إذ تفرض في المناطق التي احتلتها حكماً عسكرياً، وتحرم سكانها من حقوقهم، وتوطن فيها مواطنيها. ومن المفهوم أن أي نقد لها سيكون مختلفاً واستثنائياً مقارنة مع النقد الموجه للدول الأخرى. هذا الانتقاد (حتى لو كان من يوجهه لاسامياً) لا علاقة له من قريب أو من بعيد بكراهية إسرائيل. ولكن التعريف “المرن” للحلف والذي يفهم منه بأن كراهية إسرائيل غير ضرورية من أجل أن نعتبر رؤيا معينة لاسامية، يمكّن من طرح انتقاد الاحتلال والنضال ضده كمظاهر على اللاسامية.
تصعب المبالغة في حجم الضرر الجيوسياسي والعام الذي قد يلحق ببحث اللاسامية الحديثة كنتيجة لهذا الخواء الفكري. وإذا كان “الحل النهائي” النازي، وحركة المقاطعة بي.دي.اس، والدعوة لمقاطعة المستوطنات، كلها مظاهر لاسامية، فإن مفهوم “اللاسامية” سيفقد أي علاقة له مع الظواهر التاريخية والسسيولوجية الحاسمة للاساميات الحديثة في الواقع، ويتحول إلى مفهوم فارغ من المضمون وعديم الصلاحية التحليلية والفائدة الفكرية بسبب تعدد معانيه المختلفة.
ليس غريباً أن هناك مؤرخين بارزين للكارثة ولتاريخ الشعب الإسرائيلي في العصر الحديث، مثل البروفيسور دافيد انجل من جامعة نيويورك، كاتب أحد ملحقات التقرير الأكاديمي عن وضع دراسات الكارثة، التي رفعت يديها إزاء تعدد الاستخدامات عديمة التمييز لمفهوم اللاسامية. يعتقد انجل بأن الوقت حان للتخلي عن هذا المفهوم، وكأن الأمر يتعلق بتصنيف تحليلي وليس ظاهرة ملموسة في التاريخ اليهودي، من ناحية الخطاب العام، ولكن كخطوة بين هذا الموقف ونفي اللاسامية كواقع تاريخي، الأمر الذي لا يقصده انجل والذين يتفقون معه في الرأي بالطبع، ولكن ليس للمؤرخين سيطرة على تشويه استنتاجاتهم في الخطاب العام.
إذا تضخم مفهوم اللاسامية ربما يمكن إيقافه، وإن إحدى الطرق لذلك قد تكون عملاً مشتركاً لباحثي اللاسامية الإسرائيليين من أجل تغيير تعريف العمل للحلف، بروحية التعريفات الكلاسيكية للاسامية الحديثة. التعريف القديم–الجديد سيؤكد مجدداً التميز الشامل للعنصرية اللاسامية، والخصائص الشيطانية المحددة للصورة النمطية اليهودية، وسيؤكد أيضاً الهدف الأساسي للأيديولوجيا اللاسامية في العهد الحديث: إبعاد اليهود عن عائلة الأمم من خلال المس بحقوقهم المدنية في الشتات و/أو من خلال الاحتجاج على حقهم في تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل.
بقلم: دمتري شومسكي
هآرتس 28/6/2020