فؤاد ابراهيم – صحيفة الأخبار
انتصر عبد الله الحامد، الثائر السعودي المدني على السجن والسجّان، واختار الرحيل بملء شغفه بالحرية. لا طوق بعد الآن يمنعه من أن يوصل رسالته من تحت التراب، في مقبرة القصيعة بمدينته بريدة وسط الجزيرة العربية. رحل بهدوء، لكن الأمانة التي تركها تصخب بمسؤولية إكمال الطريق نحو الحرية. ما يميّز تجربة الحامد النضالية ليس ثبات الخطاب مع تعاظم الأهوال فحسب، بل أضاف إليها ميزة أخرى هي القبول، عن اقتناع وإيمان راسخ بالهدف، بالعواقب مهما بلغت .تصالح الحامد مع السجن حتى حسبه عنوان نصره، وقد قال عشيّة الحكم عليه في 8 آذار/ مارس 2013: «لئن سجنا فهو والله نصر كبير جداً للمشروع»، وكتب في وصيّته الأخيرة (8/9/2013): «أدعو الله أن يرزقني الشهادة داخل السجن».
حين تهيّأ للمواجهة في تسعينيات القرن الماضي، كان الأديب والشاعر وأستاذ اللغة العربية عضواً في لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية التي ظهرت عام 1993، في رد فعل على الاستبداد السياسي في الداخل والاستتباع السعودي للولايات المتحدة. كانت تلك أول تجربة منظمة يخوضها الحامد في بلد يحظر الجمعيات الحقوقية والأحزاب السياسية. ونسج حينئذ أول علاقة مع السجن والسجّان، وتوطّن عادة المكوث خلف القضبان في صيف 1993، قبل أن يطلق سراحه نتيجة ضغوط داخلية وخارجية، ومحاولة الملك فهد احتواء تداعيات الغضب الشعبي بعد أزمة الخليج الثانية في آب/ أغسطس 1990.
بعد السجن، خرج الحامد من عباءة الأدب كصفة ملازمة له في الشطر الأول من حياته، واختار النضال المدني طريقاً نهائياً، وراح يكتب في الحقوق المدنية التي أعادته مجدّداً إلى السجن في 1995. لم يثنه القمع وبطش الجلادين عن السير في طريق يحقق فيه الرضى لنفسه ويدرك سلفاً حجم الألم فيه. في كانون الأول/ ديسمبر 2003، كان من بين مئات الإصلاحيين والناشطين الحقوقيين الذين وقّعوا على عريضة بعنوان «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله»، رفعت إلى وليّ العهد آنذاك، عبد الله، الملك لاحقاً. هي العريضة الوطنية الأولى في تاريخ المملكة التي عبّرت عن تطلعات الأطياف السياسية والاجتماعية كافة، لجهة تضمينها مطالب مشتركة: الحد من صلاحيات العائلة المالكة، وإعادة توزيع السلطة والثروة، وإقرار المحاسبة والشفافية، واعتماد مبدأ الانتخاب لأعضاء مجلسَي الشورى والمناطق. وفي شباط/ فبراير من العام نفسه، التقى عبد الله أربعين شخصاً من الموقّعين على العريضة، من بينهم الشهيد الذي نقل ما قاله عبد الله: «العريضة مشروعي وأنتم جنودي».
لكن في آذار/ مارس 2004، شنّت أجهزة الأمن حملة اعتقالات طاولت 13 إصلاحياً، من بينهم: محمد سعيد الطيب، متروك الفالح، الحامد، علي الدميني وآخرون. حينذاك تعرّف الإصلاحيون إلى لعبة الصقور والحمائم، إذ توارى الوجه الإصلاحي المتمثل في عبد الله، وبرز الأمير نايف (وزير الداخلية آنذاك) الذي أعاد لغة التهديد، وتوعّدهم بأنه على استعداد لخوض معركة أخرى مثل تلك التي خاضها ضد مجموعة «القاعدة» من أجل حفظ السلطة. سمع الحامد من نايف ما هو أكثر من مجرد تهديد، كما سمع من عبد العزيز بن فهد، المستشار في ديوان ولي العهد، الذي كان يطوف على الإصلاحيين من منطقة نجد يحذّرهم من مغبة الدعوة إلى توزيع السلطة، لأن ذلك يكون على حساب امتيازاتهم المكتسبة واحتكار السلطة.
لم يفلح أرباب السلطة في استثارة الغريزة المناطقية والطائفية لدى الحامد الذي بدا مصمّماً أكثر من أي وقت مضى على الدعوة الى الإصلاح الشامل. وبعدما كان عضواً في تيار الإصلاح، تصدّى ومعه عشرة آخرون في تشرين الأول/ أكتوبر 2009 لتشكيل جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية، عرفت باسم «حسم»، وتفرّدت بالدعوة إلى الملكية الدستورية. في هذه التجربة الجديدة، صار الحامد قائد حزب سياسي بمسمى آخر. وعلى قدر البسالة الفردية التي تميّز بها، نجح في أن يقود فريقاً من الإصلاحيين الذين آزروه في سنوات المحنة، واختاروا معه سبيل النضال حتى الرمق الأخير. وحين تعرّض رهط المؤسسين جميعاً للاعتقال، تصدّرت مجموعة أخرى لتمثيلها خارج المعتقل، لكن الثانية ما لبثت أن اعتقلت، من بينهم الناشط محمد العتيبي الذي سلّمته السلطات القطرية للنظام السعودي في 25 أيار/ مايو 2017.
بينما شهدت بعض الساحات هدوءاً نسبياً، باستثناء القطيف التي بقيت بؤرة احتجاجية مشتعلة منذ 2011 حتى 2018، ولم يتمكّن نظام القمع من السيطرة نسبياً عليها إلا بالقوة المفرطة والقتل العشوائي والاجتياحات العسكرية، واستعمال الكثافة النارية في الأحياء السكنية، والإغلاقات الغاشمة لمداخل المدن، مثّلت «حسم» أملاً لكثير من الإصلاحيين والناشطين، برغم اعتقال رموزها والعقوبات القاسية عليهم. كان الحامد والقحطاني والخضر والرشودي وآخرون السارية الأخيرة المتبقية في قلب ساحة الصراع. يكفي أن ندرك أن «حسم» وقادتها، برغم حملات التشويه التي طاولت الناشطين عموماً، كانت عصيّة على التشويه، بفعل خطابها السلمي المدني ومتانة حججها. بعبارة: كانت «حسم» تقول ما لم يقله غيرها، على الأقل في مركز السلطة.
تجاوز الشهيد الحسابات الطائفية والحزبية والمناطقية، وكان يدعو الآباء إلى تعليم أبنائهم تحطيم القيود ورفض التمييز. وكما الشهيد نمر النمر في مطالبته بإلغاء الحواجز الطائفية وأن يدافع الكل عن الكل، كذلك الحامد في اعتناقه شعار الدفاع عن الجميع تحت سويّة المواطنة. هنا لا بد من وقفة مع عهد سلمان الذي يسجّل أسوأ انتهاكات في تاريخ آل سعود، بل تجاوز عهد فيصل المعروف بقمعه وبطشه وقتله المعارضين خارج المعتقلات وفيها. في عهد سلمان، قُطعت رؤوس عشرات المواطنين لمجرد أنهم خرجوا في تظاهرات سلمية مطلبية (2/12/2016، و23/4/2019)، وأعدم رجال دين (النمر، الشيخ محمد عطية)، وقضى تحت التعذيب آخرون (الشيخ سليمان الدويش، مكي العريض، محمد الحساوي، الشيخ فهد القاضي، الصحافي تركي الجاسر)، بجانب الاغتيالات في المنطقة الشرقية لأول مرة ضد من تصنّفهم وزارة الداخلية بالمطلوبين، وهم مجرد ناشطين ومناصري الحراك الإصلاحي.
اتصف القمع في عهد سلمان بأنه عابر للمناطق والطوائف، ما يشي باتساع رقعة السخط الشعبي على سياسات النظام، وتآكل مشروعيته، ولا يكاد مكوّن سكاني إلا وله رمز قضى على يد النظام: النمر (القطيف/ الشرقية)، جمال خاشقجي (جدة/ الغربية)، عبد الرحيم الحويطي (الحويطات/ الشمال)، الحامد (بريدة/ الوسطى)، إلى جانب ما يربو على 2500 سجين من كل المناطق في سجون: الحائر، ذهبان، عليشه، الملز والطرفية… إن أهم ما يلفت إليه لجوء النظام السعودي إلى استخدام أقصى العقوبات ضد الناشطين، وإصراره على إبقاء مستوى التوتّر الأمني مرتفعاً، أن سلمان وأبناءه يعيشون قلق المصير. والمعركة التي يخوضها محمد بن سلمان في الوقت الراهن، بما فيها اعتقال عمّه أحمد بن عبد العزيز، الشقيق الوحيد لسلمان من الجناح السديري، وابن عمه محمد بن نايف، وعبد العزيز بن نايف، وزير الداخلية، وعشرات الأمراء والشخصيات الأمنية والعسكرية… تعكس أزمة عميقة داخل البيت السعودي، كما تؤشّر على مستقبل شديد الغموض يحيط بالعرش.
إن رحيل الحامد، المناضل العنيد والإصلاحي الوطني، بقدر ما يشكّل خسارة كبيرة لتيار الإصلاح، فإنه يبعث رسالة إلى كل الإصلاحيين بأن النظام لا يرعوي عن اقتراف أيّ جريمة، وبات على الجميع التأهب للأسوأ ما دامت روادع الجريمة غير متوافرة بالقدر الكافي.
خرق حظر الأحزاب
كانت «حسم» حزباً سياسياً يخرق حظراً رسمياً بمنع الأحزاب، ودعت في كانون الأول/ ديسمبر 2009 الملك عبد الله إلى تشكيل برلمان منتخب وإقرار مبدأ المحاسبة والمراقبة عقب فضيحة «سيول جدة» التي أودت بحياة ما يربو على مئة شخص وخسائر مادية هائلة. تعرّض كوادر الجمعية للملاحقة الأمنية والاعتقال، وصدرت بحقهم أحكام لسنوات. وفي تموز/ يوليو 2012، خضع عبد الله الحامد ومحمد القحطاني لمحاكمة تعسفية اتّهما فيها بتأسيس جمعية غير مرخصة. وفي 9 آذار/ مارس 2013، أصدرت المحكمة الجزائية في الرياض حكماً بحل الجمعية حالاً، ومصادرة جميع ممتلكاتها، وإغلاق مواقعها على الإنترنت، وتالياً السجن الفوري لخمس سنوات بحق الحامد، مضافاً إليها المدة المتبقية من محكوميته السابقة في قضية الإصلاحيين الثلاثة ليصبح المجموع إحدى عشرة سنة، ومنعه من السفر خمس سنوات أخرى، وكذلك السجن عشر سنوات بحق القحطاني ومنعه من السفر عشر سنوات أخرى.
المناضلون… ووزراء الداخلية
الثيمة التي ميّزت المناضلين في مملكة القمع هي ارتطامهم برمزها الأمني، أي وزير الداخلية؛ حدث ذلك في عهد فيصل مع وزير داخليته فهد، الملك لاحقاً، ثم مع نايف، في عهود خالد وفهد وعبد الله، وابنه من بعده، محمد بن نايف، الذي أقيل في 23 حزيران/ يونيو 2017. فقد وجّه الشيخ النمر نقده إلى نايف وابنه وأطلق شعاره في حراك 2011 على الملأ: «الموت لنايف والموت لآل سعود»، قابلاً أن يدفع حياته ثمناً لمواجهة الجهاز الأمني الذي يمثل عصب النظام. كذكل، تبنى الحامد ورفاقه خيار المواجهة مع رموز القمع، ورفعوا بياناً إلى عبد الله لمّا كان ملكاً يطالبون فيه بمحاكمة وزير الداخلية آنذاك، نايف، واتهام وزارته بانتهاج «سياسة تشجّع على التطرّف والعنف». لذلك، كان مفهوماً سر غضب النظام ونزوعه الانتقامي من النمر والحامد، فثمة تابو تمّ خرقه، ولم يجرؤ أحد على ذلك من قبل. لقد أخذ الانتقام طابعاً شخصياً بعدما تمزّقت هالة القداسة والرهبة على جهاز له سيرة دامية طويلة مع المناضلين عبر عقود.