بعيداً عن محاولات مختلف أحزاب السلطة، على مدى الأيام الماضية، السعي إلى ركوب موجة الحراك الشعبي، التي ظهرت في عدة تحركات في فترة ما يمكن وصفه بأنه الموجة الأولى من التحركات الشعبية، أظهرت الموجة الثانية من التحركات، التي كانت قد بدأت في نهاية الاسبوع المنصرم، الإنقسام الحقيقي داخل الحراك نفسه، الموجود منذ السابع عشر من تشرين الأول الفائت، لكن كان يتم التغاضي عنه.
النقاش القديم الجديد داخل الحراك، هو بين مجموعتين رئيسيتين، لدى كل منهما رؤيتها وأهدافها الخاصة التي تتناقض بشكل جذري مع الثانية، وهو ما ظهر بشكل واضح بعد الأحداث التي شهدها شارع الحمرا في بيروت، نتيجة الإعتصام أمام مصرف لبنان، الذي تحول إلى إشتباك بين القوى الأمنية والمتظاهرين، ثم إلى إعتداءات على عدد من المصارف الخاصة الموجودة في المكان.
في هذا السياق، من الضروري الإشارة إلى أن المجموعة الأولى كانت، منذ الأيام الأولى، قد حددت مطالبها بتشكيل حكومة إنقاذية تتولى إدارة الأزمة الإقتصادية والتحضير لإنتخابات نيابية مبكرة على أساس لبنان دائرة واحدة خارج القيد الطائفي، وترى أن النظامين المالي والسياسي سقطا، بينما المجموعة الثانية كانت تطالب بحكومة إختصاصيين مستقلين، أو ما يعرف بالتكنوقراط، تتولى إدارة الأزمة المالية والإقتصادية، لكن برؤية لا تخرج عن أفكار البنك الدولي، وتطرح الذهاب إلى إنتخابات نيابية مبكرة بهدف واحد ومحدد، هو الإنقلاب على نتائج الإنتخابات النيابية الماضية.
ضمن هاتين المجموعتين، ظهر سريعاً الإنقسام في برنامج العمل، بين من يريد التصويب على النظام المصرفي ومن يرفض ذلك، بدليل ضعف التحركات التي كانت تحصل أمام مصرف لبنان، ثم تمظهر أكثر في التموضع على مستوى ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، فالأولى كانت حاضرة في رياض الصلح بينما الثانية كان مركزها ساحة الشهداء.
في هذه المرحلة، كانت المجموعة الثانية هي الأغنى ماديا والأقوى إعلامياً والقادرة على إيصال أفكارها بشكل أفضل، بينما الأولى كانت عاجزة عن تقديم الرؤية التي لديها إلى الرأي العام، بدليل أن الشعارات التي سيطرت على المشهد العام كانت تلك التي تحملها المجموعة الثانية، في حين كان هناك نوع من التعايش بينهما، ترجم في أكثر من مناسبة عبر تنازلات تقدم من المجموعة الأولى، بدءاً من التعامل مع تسمية رئيس الحكومة المكلف حسان دياب التي سبقها طرح ترشيح السفير السابق في الأمم المتحدة لرئاسة نواف سلام لرئاسة الحكومة، لكن في المقابل كان هناك إعتراض كبير على بعض النشاطات أو العناوين التي تطرحها المجموعة الثانية، كمثل ندوة الحياد التي أدت إلى الإشكال الشهير في ساحة الشهداء.
أمس تفجر هذا النقاش بشكل واضح وعلني، إنطلاقاً من التحركات التي حصلت أمام مصرف لبنان في شارع الحمرا، التي كانت تقف خلفها بشكل أساسي المجموعة الأولى، ما دفع بالمجموعة الثانية إلى إطلاق حملة واسعة لنزع الصفة “الثورية” عنها، لا بل وصلت إلى حد القول أنها تمثل “حزب الله” و”حركة أمل” ولا تمت إلى “الثورة” بصلة، ما يضع الحراك أمام تحدّ خطير، قد يقود إلى إنقسامه بين المجموعتين، وهو ما بدأ يتظهر في الساعات القليلة التي تلت تلك التحركات، لا سيما بعد أن ردّت المجموعة الأولى على إتهامات الثانية بأن “الثورة” بدأت مرحلة “التطهير”، وبالتالي كشف الوجوه التي كانت تسعى إلى إستغلال أوجاع المواطنين.
على هذا الصعيد، هناك معادلة أساسية لا يمكن تجاوزها تكمن بأن المجموعة الأولى، في المواقف الإستراتيجية هي أقرب إلى قوى الثامن من آذار، بينما الثانية هي أقرب إلى قوى الرابع عشر من آذار، لا بل معظم الشخصيات المؤثرة فيها كانت من صلب هذا الفريق على مدى السنوات الماضية، وبالتالي هذا المؤشر يجب أن يأخذ دائماً بعين الإعتبار في قراءة المشهد الذي قد يتمظهر أكثر في الأيام المقبلة، من دون القدرة على الحسم في المسار الذي ستسلكه الأحداث.
في المحصلة، هذا الإنقسام بين المجموعتين هو الذي كان يحول، بشكل أساسي، إلى عدم التجاوب مع ما يطرح من دعوات لتشكيل قيادة موحدة أو تقديم برنامج واضح، لكن على ما يبدو ان هذا التحول قد يدفع بعض القوى الفاعلة في الحراك، من المجموعتين الأولى والثانية، إلى إعادة النظر في هذه المسألة.النشرة