عبد الباري عطوان – صحيفة رأي اليوم الالكترونية
الصين تحتفل بمئويّتها الشيوعيّة الأولى ورئيسها يتحدّى أمريكا ويُحَذِّرها بالدّم.. لماذا يُناصِبها بعض العرب العداء ويقفون في خندق الإذلال الأمريكي؟ وكيف وصلت كمُستَعمرة مُهانةً وشعب مُدمن على الأفيون إلى قمّة سقف العالم؟ ولهذهِ الأسباب نُؤيّدها
كانَ الرئيس الصيني تشي جينغبنغ يتحدّث في خطابه بمُناسبة الذّكرى المئويّة لتأسيس الحزب الشيوعي كرئيس دولة عُظمى باتت على قُرب قوسين أو أدنى من التّربّع على زعامة العالم، حيث وجّه تحذيرات صارمة إلى الولايات المتحدة التي تَحشِد الدول الغربيّة تحت قِيادتها لمُواجهة بلاده “بأنّه لن يسمح لأيّ قوّة أجنبيّة أن تُرهِب أو تقمع وأن تستبعدّ الشعب الصيني بعد اليوم”.
الخِطاب الذي جاء في مُناسبة سنويّة تقليديّة لم يَكُن تقليديًّا على الإطلاق، وينتقل صاحبه من الدّفاع إلى الهُجوم، ولعلّه جاء ردًّا على جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأوروبيّة الأسبوع الماضي التي كان هدفها الأوّل ترميم “العالم الغربي” وإعادة تجديد مفاصله الرئيسيّة وتوحيده في مُواجهة القوّة العالميّة الصّاعدة بسُرعةِ الضّوء، أيّ الصين.
كانَ الرئيس الصيني في ذروة الصّدق والتّحدّي في الوقتِ نفسه عندما قال “نقلنا الصين من مُستَعمرةٍ مُهانة إلى قوّةٍ عُظمى، وأنهينا زمن التّنمّر علينا، وانتَشلنا مِئات الملايين من الفقر، والدّولة القويّة يجب أن تملك جيشًا قويًّا يضمن أمنها، وتعهّد باستِعادة تايوان بالقُوّة وإعادتها إلى حُضن الدّولة الأُم”.
التّجربة الصينيّة تستحقّ الدّراسة، مثلما تستحق أن تكون قدوة لنا كعرب أيضًا، فقبل مئة عام تقريبًا جرى توقيع اتّفاقات “سايكس بيكو” التي قسّمت العرب، ووضعتهم تحت الاستِعمارَين الفرنسي البريطاني، وكانت الصين في ذلك الوقت مُتخلّفة ومُقسّمة، والفارقُ واضِحٌ بين ما آل إليه الحالان العربي والصيني، مع التّذكير بأنّ الأمّة العربيّة على عكس الصين امتلكت ثروةً نفطيّةً ضخمة ضخّت تريليونات الدّولارات على خزائنها تبخّرت في التّرف والفساد، وما زالت مُعظم شُعوبها تحت خطّ الفقر والفاقة.
القيادة الصينيّة طَوّرت الفكر الشيوعي وأخرجته من الكثير من سلبيّاته، وأخذت من الرأسماليّة الغربيّة أفضل جوانبها الاقتصاديّة والتكنولوجيّة، والآن باتت تُنافِسها في عُقر دارها، وتتفوّق عليها، وتُهَدِّد هيمنتها العالميّة، وتضع برنامجًا استراتيجيًّا لتوحيد المشرق، وتشكيل تحالف عسكريّ مُشترك مع روسيا وكوريا الشماليّة وإيران، وربّما باكستان وكُل من يُريد الانعِتاق من الإذلال الغربي.
بعض العرب الذين ما زالوا يعيشون فِكريًّا في زمن الحرب الباردة، والدّعايات الأمريكيّة المُضادّة للشّيوعيّة، ويستمتعون بالإهانات الأمريكيّة واحتِلالاتها للعرب ونهب ثرواتهم، يشحذون ألسنتهم للتّعبئة ضدّ الصين، واختِلاق الأعذار لتبرير مواقفهم هذه، حتّى لكأنّ أمريكا، والمُعَسكر الغربي الذي تتزعّمه تتعاطى معهم باحتِرامٍ، ولم تنهب ثرواتهم، وتُفتّت بلادهم وتُغرِق المنطقة بحُروبٍ مُتواصلة لإضعافهم لمصلحة الكِيان الإسرائيلي.
لا نُجادَل مُطلقًا في أنّ السّلطات الصينيّة استخدمت سياسة القبضة الحديديّة ضدّ أقليّة الإيغور الإسلاميّة في شرقها، وقمعت بالقوّة كُلّ النّزعات الاستِقلاليّة في مناطقها، وهذا ليس مُبَرَّرًا، ويستحقّ الإدانة، ولكن هل تتعاطى “الدّيمقراطيّات” العربيّة مع مُعارضيها وانفصالييها بالرّحمة والحِنيّة والتّسامح؟
مُعظم الحُكومات العربيّة تتعامل مع الصين تجاريًّا وسياسيًّا وربّما عسكريًّا في المُستقبل دُون أيّ التِفاتٍ لمحنة أقليّة الإيغور الإسلاميّة، ووصل الأمر بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان وحُكومته إلى تسليم بعض رُموز المُعارضة الإيغوريّة إلى الحُكومة الصينيّة، والصّمت كُلِّيًّا على اضّطهادها لهذه الأقليّة التّركمانيّة الأصل والثّقافة والوَلاء.
نحن لا نقول إنّ الصين أفضل من أمريكا، ولكنّها قطعًا ليست أسوأ، والرئيس الصيني كان واضحًا ودقيقًا عندما قال في الخِطاب نفسه “لم نتَنمّر على أحد، ولم نضطّهد أيّ شعب آخر، ولهذا لن نقبل مُحاضرات من أحد في قضايا حُقوق الإنسان، ومن يتَنمّر علينا سيُواجِه حائطًا صُلبًا من 1,4 مِليار صيني، وسنَتصدّى له بالدّماء”، والقصد هُنا أمريكا والدّول الاستعماريّة الأوروبيّة ذات التّاريخ الأسود في هذا المِضمار.
نعم.. نحن نَقِف في خندق الحِلف الرّباعي الصيني الروسي الكوري الشّمالي الإيراني الجديد، ونتمنّى لقاعدته أن تتّسع وتَضُم دُوَلًا عربيّة وإسلاميّة أُخرى، فيكفينا مئة عام من الهوان والذُّل على أيدي المُعسكر الغربي المُقابل الذي لم ينالنا منه غير الدّيكتاتوريّات والاحتِلال والقمع والمُؤامرة وسرقة ثرواتنا وكراماتنا، وما زال هُناك من يُصَفِّق له، ويَنظُم القصائد تغنّيًا بمناقبه، ومدحًا لإنجازاته في دعم أعدائنا، ومُحتلّي أراضينا ومُقدّساتنا.
مَرّةً أخرى نقول علينا أن نقتدي بالتّجربة الصينيّة ودُروس تجربتها البليغة، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا لعلّنا نُبلور مشروعًا عربيًّا نهضويًّا في المئة عام المُقبلة، ونأمل أن يكون تفاؤلنا في محلّه.