بلال اللقيس – صحيفة الأخبار
خلّفت معركة سيف القدس الأخيرة تداعيات بغير اتجاه وعلى أكثر من مستوى، ولا شكّ أنّ بعض نتائجها عميقة ولا يمكن اتّضاحها بعيد الأسابيع الأولى، كونها تطال أبعاداً في الوعي وفي تعريف التوازنات ومنهجيات التفكير والعمل والنظرة إلى الواقع وفرصه، وتطال قيم ونظرات واقترابات في التفكير أكثر منه نتائج عسكرية أو سياسية من ذلك النوع المباشر.
سنحاول أن نرّكز في مقالتنا على دراسة الآثار والنتائج ذات الطبيعة الكلّية لعملية سيف القدس ـــ لا الجزئية رغم أهميتها ـــ إن على الكيان الصهيوني أو على الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج أو على محور المقاومة، ومنه يمكن أن نطلّ على بعض النتائج والآثار ذات الصلة بالمشهدية الدولية.
أولاً: على الكيان الصهيوني
1) يقوم أمن إسرائيل الاستراتيجيّ على غير نموذج بقية الدول والمجتمعات في العالم، يقوم على دعامتين، دعامة ذاتية أو ذاتانية وأخرى خارجية أي من خلال داعم دولي أو حبل اتصال لقوّة خارجية عظمى.
الجديد في معركة سيف القدس أنّها علامة فارقة ليس لجهة تكريس ضعف وتصدّع الدعامة الأولى، بل يمكن الحديث عن أنّ من بين ما أظهرته: هو بداية مسار قد يحتاج إلى مزيد من الوقت ربّما لتتّضح كيفياته، لكن هو بداية مسار تداعي الدعامة الثانية.
فيمكن القول إنّ مسار بناء القوّة الذي دأب عليه محور المقاومة منذ أيار 2000 وما قبله وصولاً إلى أيار 2021، وتطّور مسارات قواعد الردع لصالح هذا المحور في قبالة الكيان الصهيوني، كلّها حفرت عميقاً في الوعي وأضعفت المناعة وهزّت الثقة وشكّكت بالثابت (المرتكز الجمعي) الذي انعقد عليه الاجتماع الصهيوني ـــ الجيش والأجهزة الأمنية ـــ وليس انتهاءً بالسردية التي واكبت تأسيس الكيان وتهافت فذلكتها… كل هذه المؤشرات والحقائق شكّلت أمارات كافية على أنّ عناصر تشكّل الدعامة الأولى باتت فعلاً مهدّدة ومتصدّعة، ويصعب ترميمها إن لم يكن مستحيلاً ـــ في ظل غياب خطاب ثقافي وقيادة ـــ وربّما باتت الأجيال الصاعدة على مقلبَي الصراع تدرك أبعاد جملة الأمين العام لحزب الله في ذكرى انتصار 2000 «أنّ إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت»… فهذه الجملة التي نظر إليها البعض كعنوان تعبوي في حينه، أصبحت اليوم إدراكاً ووعياً في عقل المجتمعات المقاومة وفعلها، وأيضاً أصبحت حقيقة في وعي المستوطنين الصهاينة ونخبهم.
الجديد هو أنّه إلى جانب ما كرّسته وعمّقته هذه المعركة النوعية من تصدّع في الدعامة الأولى، فإنّها فتحت النقاش وربّما للمرّة الأولى على حقيقة وفاعلية الرباط ومدى تماهي مصالح المشّغِل الغربي مع المشغَّل أي «إسرائيل» ككيان وظيفي.
وتتعدّد الأسباب التي أوصلت إلى هذا السؤال أو البحث الذي لم يكن مقبولاً أو يخطر على ذهن من قبل، لكن الحقائق والمجريات التي أصابت البيئة الدولية برمّتها، والأزمة التي أصابت الديمقراطيات كتجارب اجتماعية، والفشل المتتابع في السياسة الأميركية في منطقتنا، والتقانة التي باتت وسيلة تتجاوز أدوات الحكومات، وفشل الكيان الوظيفي في تحقيق انتصارات وتقديم نفسه كقوة حيوية يمكن الاعتماد عليها في عيون أصحاب الاتجاهات البراغماتية… كما أنّ الدول الغربية كدول لم تعُد تمتلك الزخم والتصميم لمتابعة السياسات بجلد وتحمل، وأصبحت أميَل في فعلها إلى الممارسات الإدارية والاجتماعية منها إلى السياسية، ولم تعُد الحكومات بنفس قوّة التأثير في توجيه المجتمعات للأجندات التي تريد، كما أنّ الحكومات بذاتها أصبحت أكثر تخوّفاً من الفشل مع شدّة الاستقطاب التي تشهد واقعها… فالديمقراطيات بأجمعها اليوم تعاني من تشظٍّ وعدم القدرة على الالتزام بسياسات متمادية وطويلة الأمد.
فكيف بأميركا التي تشكّل دعامة الكيان الصهيوني الخارجية لاستمراره، التي تبحث بجدّ وتحت ضغط الوقت وتحدّيه في كيفية استعادة زمام المبادرة عالمياً بعد حالات تغيّر القوّة والتوزّع الذي أصابه.
ناهيك بأنّ العالم ونظامه الدولي في تحوّل غير محدّد الوجهة أو الصيغة حتّى الآن… فرغم تنظيرات تعدّد الأقطاب الدولي كبديل من الأحادية، تُثبت الوقائع وجود قوى إقليمية تمتلك تصميماً وإرادة جادة وحصافة سياسية وجاهزية وصبراً وجلداً وتضحية، إنّ نموذجاً إقليمياً كهذا يبدو أكثر تأثيراً من القوى الدولية أو العظمى في بيئات أمنه الاستراتيجي، وعند تخوم مصالحه وقيمه كما تثبت الوقائع مع نموذج إيران اليوم.
نخلص إلى القول إنّ الدعامة الثانية أي الخارجية… بدأت تحوم حولها الأسئلة وحول استدامتها وفاعليتها وفعليتها في لحظة تغيّر في تشخيص وتحديد الأمن القومي والمصالح العليا في المجتمعات الغربية، وكذلك هو الحال في العقل الإسرائيلي ـــ حتّى لو سعت الحكومة الإسرائيلية للتخفيف منه لحسابات ومخاوف مفهومةـــ والمسألة التي يُفترض التوقّف عندها مليّاً هي طبيعة التحوّل في النظرة حيال «إسرائيل» عملياً وليس بإلقاء الخطب والوعود: «بين إسرائيل التي كان ينظّر الغرب لها كدولة وظيفية يُنتظر منها تطويع ما حولها، إلى كيان جلّ تفكيره التعاون مع الغرب لاستدامة بقائه وأمنه الاستراتيجي ككيان».
2) وإذا قاربنا وضعية الكيان اليوم لجهة المنهجيات التي أمكن لأيّ فاعل أن يلعبها ويقوم بها والتي تتمحور بالنسبة إلى الكيان الصهيوني بين منهجيات ثلاث: فهو لم يعُد قادراً على فرض الوقائع من خلال الحروب العسكرية والحسم، ولم يعد قادراً على الاستمرار في ورقة التفاوض وحلّ الدولتين أو ما يُدّعى أنّه مسار «السلام» لأسباب وظروف داخلية وإقليمية ودولية، فإنّه أيضاً لم يعُد قادراً على أن يفرض على الغرب المقيّد معطى سياسياً خارجياً باعتماد نظرية الصفقة التي تبنّتها إدارة ترامب، فالصفقة وفرضها سقطا بالضربة القاضية مع سيف القدس، والمطبعون من العرب مع نتنياهو كلّ مضطر لأن ينقذ نفسه بمفرده اليوم.
بعد عرض هاتين النقطتين، هل يمكن القول: إنّ الظروف التي مهّدت وساهمت في أن يأتي الصهاينة لفيفاً إلى إسرائيل ليحلّوا محل أهل الأرض باتت معكوسة بأغلبها، وتتهيأ الظروف اليوم لأهل الأرض الحقيقيين ليعودوا؟ نحن نعيش انقلاب المشهد وتسارعاً في تهيؤ الظروف لذلك… والأحد عشر يوماً كانوا مصداقاً ومحاكاة في هذا السياق على طريق العودة. فالظروف والعوامل التي أمّنت لـ«إسرائيل» نشأتها تتراجع تباعاً والتي تؤمّن للشعب الفلسطينيّ عودته تبرز وتتلاقى.
ثانياً: في النتائج الكلية على الشعب الفلسطيني
يمكن أن نتحدّث عن عدّة عوامل أثّرت إيجاباً وستؤسّس لمدى بعيد:
1) عامل ثقة المجتمع الفلسطيني المقاوم بنفسه ومضيّ عزيمته واستخلاصه عبر الفشل الماضي.
2) ثقته بمقاومته وعقلها ومجاهديها ومهاراتهم الذين تمكّنوا من بناء قوّة مؤثرة من خلف كل أجهزة الاستشعار والتنبّؤ عند الإسرائيلي ـــ رغم طبيعة المكان وظروفه الصعبة ـــ.
3) إنّ المقاومة باتت هي مصدر الشرعية الأوّل لجميع القوى لا سيّما في فلسطين.
4) لن يكون أمام قوى المقاومة إلا أن تكمل. فعملياً لم يعُد هناك إلّا السير إلى الأمام خياراً متاحاً.
5) حسمُ بعض قوى المقاومة تأرجحها أو رؤيتها بين حدَّي المقاومة وحاجتها كخيار، والسلطة والسعي لها لصالح الأولى كخيار وحيد… فالفقه السياسي الذي يجمع بين الطموح إلى السلطة والمقاربة من خلالها يحتاج إلى مراجعة فعلية بلحاظ خصائص الزمان والمكان.
6) انكشاف وتزايل الأطراف الداخلية في فلسطين قبل الخارجية، وهذا ساعد في جلاء الصورة وفرز الساحات وتحديد خطوط الاشتباك… وبالتالي هندستها وفق قواعد عمل جديدة.
7) عامل عدم الركون إلى المؤسسات الدوليّة والرباعيّة وغيرها.. كونه بلا تأثير ولا معنى لمن لا يمتلك قوّة التأثير وتنازع الردع.
8) عامل اكتشاف الأمة لجانب من قوّتها الكامنة من بوابة فكرة القداسة والمقدّس… فـ«القضيّة» المقدّسة قد تشكّل عامل الجذب الفياض والعابر، ليتبّين أنّ الغرب والصهاينة لم يفقهوا بعد تركيبة وشيفرة عالمنا العربي والإسلامي، ومشكلتهم أنّهم يرون العالم كما يظنون وليس كما هو عليه ـــ فيظنون أنّ مواطنهم كإنساننا ومجتمعهم وتفضيلاته كما حالنا، وهذا ما يوقعهم دوماً في خطأ التقدير.
9) عامل اضطرار معظم الحكومات التي تواطأت تاريخيّاً لتمكين «إسرائيل» وإضعاف الحق الفلسطينيّ وتهميشه، فلم يعدّ بالإمكان تجاوزه أو التحايل عليه، لقد بات محرجاً للعرب وتوسّعت هوامش مناوراته وخياراته العسكرية منها والسياسية!
10) استعادة الشعب الفلسطيني وشبابه زخم الثورة وتنامي شرعيتها وثقافتها، ولأوّل مرّة منذ عقود يلمس هذا الشعب أنّ حقه معه وقوّته أيضاً معه، فلديه قوّة حق وقوّة سيف!
11) عامل استشعار الشعب الفلسطيني أهمية الحاضن الإقليمي المخلص للقضية والمقدّسات. يبرز اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه أكثر تأثيراً من أيّ معطى دولي، فالأقلمة الرشيدة والصادقة إذا ما توافرت أمضى تأثيراً في توجيه مسار الأحداث كما أثبتت مجريات العقود الثلاثة المنصرمة.
ثالثاً: في النتائج على دول محور المقاومة وقواه
1) اقتراب صورة العودة من خلال ما قُدّم من نموذج مميّز في دائرة معيّنة.
2) إعادة لحم ما انفتق على أثر «الربيع العربي» لا سيّما التوّتر الطائفي.
3) تراجع ثقة غالبية المكونات ـــ لا سيّما الأقليات ـــ في البيئات العربية بالخيار الغربي والأميركيّ بالذات إلى الحضيض.
4) ثقة مجتمعات المقاومة بمحورها وقيادته، فهو يعتمد منهجاً يرد فيه على التكتيك بالضربة الاستراتيجية، ويتميّز بالضرب العميق وجلده على بناء مسارات القوة والإبداع فيها.
5) القضيّة الفلسطينيّة قادرة في أيّ لحظة على استنهاض الأمة مجدداً وتجديد عزمها وإرادتها مهما عظمت التحدّيات الأخرى.
6) التيقّن من أن الاستثمار على طريق فلسطين كلّه مكاسب ولا يوجد فيه خسارة أبداً.
7) اضطرار خصوم محور المقاومة للعودة إلى لغة المفاوضة والتفاوض، بعد أن تبيّن لهم عقم خياراتهم وفشلها، وبعد أن تبيّن لهم أنّ أميركا عاجزة عن حماية أمن حليفها الأوّل «الكيان الصهيوني» فكيف بها لتأمين حمايتهم!
8) بروز اتجاه جديد على أثر التحّول الذي ثبّتته «سيف القدس» قد يفتح مساحة أو هامشاً لإعادة إطلاق رؤية لأمن عربي وفق تعريف ما يمكن إنضاجه بالإفادة من مكامن القوة العربية وفي مقدمها المقاومة الفلسطينية، وهذا يعزز موقع مصر ودورها، وربّما يتيح لها أن ترشّح لدور فاعل، إذا ما قرّرت الإفادة من الفرصة وامتلكت العزم والإرادة، وذلك ممكن وبقوّة اليوم.
9) فشل محاولة تغيير البوصلة في الوعي العربي، فالقضية الفلسطينية لا تموت في الوجدان الإسلامي البتة. فمحاولة التجويع والحصار وتبديل أولويات الأمّة كلّها يطاح بها في لحظة «كرامة».
10) تعزيز موقع محور المقاومة التفاوضيّ ووزنه الدولي بحيث يتقدم تباعاً ليشكل حاجة لكل من الشرق (الصيني- الروسي) والغرب (الأميركي- الأوروبي)، وما يستتبعه ذلك من تعزيز المشاركة والدور وصناعة الأحداث.
رابعاً: في النتائج على بنية النظام الدولي
وهو ما سنعرضه من خلال جملة تأملات تسترعي تفكيراً وتطويراً عند أهل الجهاد المعرفي والفكري والسياسي.
1) ألا يمكن أن ننتصر لفلسطين ولقضايانا الجامعة دونما الوقوع في فتنة تصديع مجتمعاتنا ودولنا؟ الممارسة العملية لعقدين أو ثلاثة تفيد أنّ ذلك ممكن بالممارسة، والمشكلة ربّما تكمن في قصور التنظير السياسي القديم عن مجاراة ذلك.
2) إنّ بنية النظام الدولي لم تراعِ قيم شعوب بأسرها حين إنتاجه واعتماده بل وفرضه من قبله بزعم رفض التوجيه، إلّا أنّ مجريات ومسار تحول القوة العالمي والتغيّر القسري الذي فرض نفسه، أبرز أنّ قيماً كقيمة «القداسة والمقدّس» هي قيم إنسانية حاكمة تعبّر عن الطبيعة العميقة للإنسان والجماعة، فلا يمكن تخطّيها بأي دعوى أو ادعاء حتّى لو كانت أطروحة السيادة.
3) أسّست المعركة الأخيرة لنظرية تلاقي الجبهات واستراتيجيّة الاقتراب الموزع في فلسطين والجوار، فهل يمكن أن ننظر من خلالها إلى استراتيجية تلاقي المضطهدين على طول المسار.
4) كرّست حقيقة الاعتماد على الشعوب لا سيّما الشعوب المؤمنة كأبرز مفاتيح القوة لعالمنا الجديد.
5) الذات المسروقة في الغرب باتت تكتشف تباعاً حالها من بوابة القضية الفلسطينية، والبنية الصامتة والخفية التي اختطفتها، لذلك ستتوّجه عملياً لرؤية الحقائق بعيداً عن فذلكة أدوات تأثير السلطة «الموضوعية» و«العلمانية والحيادية حيال الحقائق»!