وجّه آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي نداءً إلى الأمة الإسلامية بمناسبة حلول موسم الحج 1442، أكد فيه أن الحج إلى بيت الله الحرام ليس متاحًا هذا العام لكن المتاح هو التوجّه نحو ربّ البيت والتضرّع والاستغفار، وقال إن “جهود الأمريكيين لتشويه عزم الشباب والمقاومة بالعراق وسوريا ولبنان وبلدان أخرى ونسبها لإيران إهانة للشباب وناتجة عن قلة إدراكهم”، مشيرًا الى أن “سوء الفهم أذلّ أمريكا في أفغانستان وبعد استخدامها الأسلحة والقنابل ضد شعبها الأعزل شعرت بأنها في المستنقع فخرجت منها”.
وأضاف سماحته “من الطبيعي أن أمريكا ومن لفّ لفّها يتحسّسون من عنوان المقاومة، ولذلك يواجهون “جبهة المقاومة الإسلامية” بأنواع العداء، وانسياق بعض حكومات المنطقة مع هؤلاء هو واقع مرّ يساعد بدوره على استمرار تلك الشرور”، وتابع “شعوب المنطقة أكدت أنها يقظة وأن نهجها منفصل عن نهج بعض الحكومات الساعية لإرضاء أمريكا والرضوخ لمطالبها بشأن فلسطين”.
وفيما يلي نصّ النداء
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أيها الأخوة المسلمون.. أيتها الأخوات المسلمات في أنحاء العالم.
في هذا العام أيضًا حُرمت الأمة الإسلامية من نعمة الحج الكبرى، والقلوب المشتاقة، فقدت بحسرة وأسف ضيافة أقامها للناس الربّ الحكيم الرحيم.
هذه هي السنة الثانية التي تبدّل فيها موسم الحج بما فيه من بهجة وسرور معنويان إلى موسم حسرة وفراق، إذ إن بلاء الجائحة، ولربّما بلاء السياسات الحاكمة على أرض الحرمين الشريفين، قد حرم أعين المؤمنين التوّاقة من أن تشاهد رمز الوحدة للأمة الإسلامية وعظمتها ومعنويتها، وغطى هذه القمة العظيمة الشامخة بالضباب والغبار.
هذا اختبار مثل غيره من الاختبارات العابرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، وربّما يُسفر عن غد مشرق بإذن الله تعالى.
من المهم أن يبقى الحج في تكوينه الحقيقي حيًا في قلب كل مسلم وروحه، وإن غاب موقتًا في إطاره المناسكي، فإن رسالته السامية ينبغي أن لا تفقد بريقها.
الحج عبادة مليئة بالرموز والأسرار، وتركيبته الرائعة من حركة وسكون تبلور هوية الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وتعرض أمام أعين العالم ما فيه من روعة وجمال. إنه من جهة يرتقي بقلوب العباد إلى عروج معنوي بالذكر والتضرّع والخشوع، فيقرّبهم من الله سبحانه، وهو من جهة أخرى وبما يفرضه من ملبس موحّد ومسیرة موحّدة وحركات متناسقة يوثّق الارتباط بين الإخوة القادمين من كل أنحاء العالم، ويعرض من جهة ثالثة بمناسكه المفعمة بالمعاني والأسرار أسمى رموز الأمة الإسلامية أمام أنظار العالم، كما يبين عزم الأمة وعظمتها أمام من لا يضمرون خيرًا لها.
لم يعد حج بيت الله الحرام متاحًا هذا العام، لكن المتاح هو التوجه نحو ربّ البيت والذكر والخشوع والتضرّع والاستغفار. إنّ الحضور في عرفات ليس ميسّرًا، لكن الدعاء والمناجاة التي تعمّق المعرفة في يوم عرفة ميسّرة للجميع. رمي الشيطان في منى غير ممكن، ولكن التصدي لشياطين الهيمنة وطردهم ممكن في كل مكان. الحضور الموحّد بالأجساد حول الكعبة غير متاح، لكن الحضور الموحّد للقلوب حول الآيات النيّرة للقرآن الكريم والاعتصام بحبل الله واجب دائم ومستمر.
نحن أتباع الرسالة الإسلامية بما نمتلكه من نسبة كبيرة من سكان العالم، وأصقاع مترامية، وثروات طبيعية طائلة، وشعوب حية ومستیقظة نستطيع أن نرسم المستقبل بهذا الكم الهائل من الرصيد والإمكانات. الشعوب المسلمة في الأعوام المائة والخمسين الأخيرة لم يكن لها دور في مصير بلدانها وحكوماتها وكانت تُدار تمامًا بسياسات البلدان المعتدية الغربية، وتعبث بها أطماع هذه البلدان وتدخلها وشرورها ما عدا بعض الاستثناءات المحدودة. إن التخلف العلمي والتبعية السياسية التي نراها اليوم في كثير من البلدان هي حصيلة ذلك الضعف والانفعال.
إن شعوبنا، وشبابنا، وعلماءنا الدينيين والأكاديميين، والمثقفين المدنيين والسياسيين والأحزاب والجمعيات يتحملون جميعهم مسؤولية النهوض ليتلافوا ما اعترى ماضينا من صفحات مخجلة خالية من أي افتخار، و«يقاوموا» تعنّت القوى الغربية وتدخلها وشرورها.
إن البيت القصيد في خطاب الجمهورية الإسلامية والذي يثير قلق عالم الاستكبار وغضبه هو الدعوة إلى المقاومة، وهي المقاومة بوجه تدخل أمريكا وشرورها، هي وغيرها من القوى المعتدية، حتى يمسك العالم الإسلامي بيده زمام أمور مستقبله مستندًا إلى تعاليم الإسلام ومعارفه.
من الطبيعي أن أمريكا ومن لفّ لفّها يتحسّسون من عنوان «المقاومة» ولذلك يواجهون «جبهة المقاومة الإسلامية» بأنواع العداء. وانسياق بعض حكومات المنطقة مع هؤلاء هو واقع مرّ يساعد بدوره على استمرار تلك الشرور.
الصراط المستقيم الذي ترسمه مناسك الحج بما تنطوي عليه من طواف وسعي ووقوف في عرفات ورمي الجمرات وشعائر وعظمة ووحدة، إنما هو التوكل على الله والتوجه نحو قدرته التي لا تزول والثقة الوطنية بالذات والإيمان بالسعي والمجاهدة، والعزم الراسخ على الحركة، والأمل الكبير بالنصر.
وقانع الساحة في المنطقة الإسلامية تزيد من هذا الأمل وتقوّي ذلك العزم. فمن جهة ما يعاني منه العالم الإسلامي من مصائب، والتخلف العلمي والتبعية السياسية، والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، كله يضعنا أمام واجب كبير ومجاهدة لا تعرف الكلل والملل. فلسطين المغتصبة تستنجدنا، واليمن المظلوم المضمّخ بالدماء يوجع قلوبنا، ومصائب أفغانستان تقلقنا جميعًا، والحوادث المرة في العراق وسوريا ولبنان وبعض البلدان الإسلامية الأخرى حيث يد شرور أمريكا وبطانتها مشهودة فيها، تثير غيرة الشباب وهمتهم.
ومن جهة أخرى، نهوض عناصر «المقاومة» في هذه المنطقة الحساسة، ويقظة الشعوب، وهمّة جيل الشباب المفعم بالنشاط، يغمر القلوب بالأمل؛ فلسطين في كل ربوعها تسلّ «سيف القدس» من غمده؛ القدس وغزّة والضفة الغربية وأراضي 48 والمخيمات تنهض بأجمعها، وخلال اثني عشر يومًا تمرّغ أنف المعتدي بالتراب؛ اليمن المحاصر والوحيد يتحمل سبع سنين من الحرب والإجرام وقتل المظلومين على يد عدوّ شرور وقسيّ القلب، ومع وجود قحط الغذاء والدواء وإمكانات الحياة، لا يستسلم للظالمين، بل يجعلهم مذعورين بما يبديه من اقتدار وابتكار؛ وفي العراق تدحر عناصر «المقاومة» بلغة صريحة واضحة أمريكا المحتلة وعميلها داعش وتبدي عزمها الراسخ دون تلكّؤ لمواجهة أي نوع من التدخل والشرور من قبل أمريكا ومن لفّ لفها.
إن المحاولات الإعلامية الامريكية لتحريف ما يبديه الشباب الغيارى وعناصر المقاومة من عزم وإرادة ونشاط في العراق وسوريا ولبنان وبلدان أخرى، ومحاولة نسبة كل ذلك إلى إيران أو أية جهة أخرى، هي إهانة للشباب الشجاع اليقظ، وهي تدلّ على ضعف الأمريكيين في فهمهم ودركهم لشعوب هذه المنطقة.
هذا الفهم الخاطئ نفسه أدى إلى تحقير أمريكا في أفغانستان، إذ بعد الضجيج الذي أثارته لدى دخولها في هذا البلد قبل عشرين عامًا، وبعد أن شَهَرت السلاح وألقت القنابل وأضرمت النيران أمام الشعب الأعزل من المدنيين أحسّت أنها غرقت في مستنقع وأن عليها أن تخرج منه بقواتها وأجهزتها العسكرية. طبعًا على الشعب الأفغاني اليقظ أن يراقب الأجهزة الاستخباراتية وأسلحة الحرب الناعمة الأمريكية في بلده ويتصدى لها بوعي.
إن شعوب المنطقة أثبتت أنها يقظة وواعية وأنّ توجهها ومسيرها يفترق عن بعض الحكومات التي دفعها السعي لإرضاء أمريكا إلى أن ترضخ لإرادتها تجاه قضية فلسطين الحياتية؛ الحكومات التي تتزلف للكيان الغاصب الصهيوني سرًا وعلانية إنما هي تتنكر لحق الشعب الفلسطيني في وطنه التاريخي، وهذا يعني سرقة الحق الفلسطيني. إن هؤلاء لم يكتفوا بنهب الموارد الطبيعية لبلدانهم، فاتجهوا الآن إلى الإغارة وعلى ثروات الشعب الفلسطيني.
أيها الإخوة والأخوات!
منطقتنا وحوادثها المتنوعة المتسارعة مسرح فيه الصبر والدروس. فيه الاقتدار الذي تخلقه المجاهدة والمقاومة بوجه المعتدي المتغطرس وفيه من جهة أخرى الذلة الناتجة عن التسليم وإظهار الضعف وتحمّل ما يفرضه المعتدي.
إن الوعد الإلهي الصادق يقضي بنصرة المجاهدين في سبيل الله: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( وأول أثر لهذه المجاهدات غلق الأبواب أمام أمريكا وغيرها من المتعنتين الدوليين ومنعهم من التدخل وإثارة الشرور في البلدان الإسلامية إن شاء الله تعالى.
سلامًا وتحية لحضرة بقية الله أرواحنا فداه، وأسأل الله سبحانه أن يمنّ بالنصر على شعوبنا الإسلامية وأن يرفع درجات الإمام الخميني العظيم والشهداء الأبرار.