كمّن يمشي في حقل من الألغام، تسير الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية على مسار التفاوض. كل خطوة لها حساباتها، وكل مسار له تبعاته ونتائجه على الصورة العامة للمشهد، ولو أن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض سيسهّل إعادة إحياء الاتفاق النووي.
لم تكن خطوة إيران بالأمس، أي الانسحاب من البروتوكول الإضافي للمنظمة الدولية للطاقة الذرية، مفاجئاً، بل هو جزء من خطة وضعها البرلمان تحمل اسم “الخطة الاستراتيجية لرفع العقوبات”. إلا أنّ الجديد، هو مبادرة مدير عام الوكالة الدولية رافايل غروسي، والذي تمكن بعد زيارة طهران، من تأمين استمرار تعامل الجمهورية الإسلامية مع الوكالة الدولية، ولو بطريقة غير مباشرة وخارج إطار البروتوكول الإضافي.
نصّ الاتفاق بين طهران والمنظمة، على أن تحتفظ الأولى، بدءاً من وقف البروتوكول الإضافي ولغاية 3 أشهر، بالتسجيلات لأعمالها في المراكز النووية، على أن تسلمها للمنظمة الدولية فور رفع العقوبات. لكن في حال لم يحصل ذلك في تلك الفترة، ستقوم إيران بتلف هذه التسجيلات. وبالتالي، ما حصل خلال زيارة غروسي، هو فتح نافذة في الجدار، وترك مساحة الأمل في الوصول إلى اتفاق جديد بين طهران وواشنطن.
في موازاة ذلك، برز صراع أمس بين البرلمان والحكومة في إيران، ما دفع بعض النواب إلى المطالبة بمحاكمة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، ومدير وكالة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، بسبب الاتفاق مع غروسي. تفاقم هذا الصراع، حتى “برّأ” القائد الأعلى علي خامنئي الحكومة، وطالب بتوحيد الصفوف، ما دفع رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف إلى سحب تلك الدعاوى بحق الرئيس الإيراني حسن روحاني.
لكن اللافت في كلام خامنئي، ليس فقط وقوفه إلى جانب الحكومة، ما يشير إلى رغبته في الوصول إلى حلّ نووي، بل اللافت هو إشارته للمرة الأولى إلى إمكانية تصنيع القنبلة النووية قائلاً “إذا قررت طهران امتلاك سلاح نووي، فلا يمكن لا هو ولا للذي أكبر منه أن يمنعها”، في إشارة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو. لم يعلن خامنئي، رأس الهرم في إيران، بناء إيران للسلاح النووي، لكن في السياق العام، بدأ الصوت يعلو فيها، لإمكانية اللجوء إلى هذا الخيار لفرض الردع مع الغرب.
هذا كله يشير إلى رغبة طهران في إحياء الاتفاق النووي، دون الظهور بموقف الضعيف، ومحاولة رفع سقف المطالب، للوصول إلى شروطها المطلوبة، ودون المس بمحرمّات طهران: النظام الصاروخي، وتحركاتها في المنطقة.
أميركياً، تظهر أميركا بعض “الدلع” في تعاملها مع الجمهوريّة الاسلاميّة، إلا أن سياق الأحداث، يؤكد رغبة واشنطن في الوصول إلى اتفاق.
منذ وصول بايدن إلى الرئاسة الأميركية، بنى نظاماً دبلوماسياً مساعداً للاتفاق مع إيران، خصوصاً بعد تعيينه روبيرت مالي، والذي لعب دوراً بالاتفاق النووي عام 2015، مبعوثاً رئاسياً في الملف الإيراني.
إضافة للتعيينات الدبلوماسية، بعث خطاب بايدن أمام مؤتمر ميونخ الأسبوع الماضي بالتفاؤل، بعد أن أصر على ضرورة الوصول إلى اتفاق مع إيران. وترافقت هذه التصريحات مع أحداث مهمة: إزالة حركة أنصار الله المقربة من إيران عن لوائح الإرهاب، وقف دعم النظام السعودي في حربه باليمن، تخفيف العلاقات مع ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، إضافة لسحب المقاتلات الأميركية من محيط مياه الخليج، والدعوة الأميركية بالعودة إلى طاولة مفاوضات الـ5+1، ولو بشكل غير رسمي.
بالتوازي، كان لافتاً إعلان كل من كوريا الجنوبية واليابان مطلع الأسبوع، الإفراج عن بعض الأموال المحتجزة لإيران في البلدين، وهي أموال مستحقّة لطهران لم تحصل عليها بسبب العقوبات الأميركيّة، إضافة لإعلان السفير السويسري في طهران عن رغبة بلاده بالإنفتاح على السوق الإيراني رغم وجود العقوبات الأميركيّة. وهذا ما كان ليحصل، لو لم تكن أميركا موافقة عليه.
إضافة لكل ذلك، أعلن بعض المسؤولين الأميركيين، أن حوارات مع المسؤولين الإيرانيين بدأت حول بعض المسجونين الأميركيين في إيران، وهو ما نفته طهران، مؤكدة أن التواصل لا يحصل بين إيران وأميركا، بل مع السفارة السويسرية في طهران وهي راعية المصالح الأميركية فيها.
إن سرد الأحداث هذا يوصل إلى استنتاجين:
أولاً، ما هو أكيد، أن مهلة الثلاثة أشهر التي أعطتها طهران للمنظمة الدوليّة للطاقة الذرية، هي في الحقيقة مهلة للرئيس الأميركي جو بايدن لبحث خياراته. والردّ على هذه المهلة، كان إعلان واشنطن رغبتها في المشاركة في حوار مع الجمهورية الاسلامية بشكل غير مباشر ضمن إطار اجتماعات الدول 5+1.
ثانياً، إيران تبدي استعدادها لخوض أي حوار غير مباشر مع واشنطن، حسب تصريحات مسؤوليها، لكن شرطها الوحيد هو رفع العقوبات. وبالتالي الأبواب غير مغلقة حتى الآن على أي تطور في هذا السياق.
ثالثاً، بناء على ما يحصل، الأكيد أن أيّ صفقة مقبلة، لن تكون محصورة بالملف النووي الإيراني، أي تحديد نسب التخصيب وما إلى ذلك، بل ستكون شاملة لملفّ المحتجزين بين البلدين، وملف أموال إيران المحتجزة في الخارج وغيرها من الملفات التي يتصارع الطرفان فيها. فهل يكون لتسارع الأحداث في المنطقة أي تأثير على لبنان؟.النشرة