“لو موند”: مصرف لبنان دولة داخل دولة

نشرت صحيفة “لو موند” الفرنسية تقريرا مفصلا عن مصرف لبنان المركزي معتبرة أنه لا يمكن لأحد المساس به، ووصفته بـ”صندوق باندورا النظام اللبناني”.

وفي التفاصيل، قالت الصحيفة إن “التدقيق الجنائي لمصرف لبنان، وهو عنصر أساسي في الإنقاذ الاقتصادي للبلد، قد لا يرى ضوء النهار”، مشيرة إلى أن “حكومة تصريف الاعمال أوقفت هذه المهمة يوم الجمعة مع الشركة الأميركية “ألفاريز ومارسال”، بعد أن رفض مصرف لبنان الكشف عن حساباته، بحجة السرية المصرفية”.

وذكرت أن “حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يتعذر عزله، في منصبه منذ 27 عامًا، يقاوم بقوة هذه العملية التي تهدف إلى تسليط الضوء على إفلاس القطاع المصرفي في البلاد، الذي تقدر خسائره بنحو 68 مليار دولار”.

ونقلت الصحيفة عن وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم قولها إنها “صفعة في وجه الدولة اللبنانية، تطوَّر مصرف لبنان إلى دولة داخل دولة ترفض الخضوع للمساءلة”، معتبرة أن “هذا الأمر يرسل إشارة سيئة للغاية، وهي أن المؤسسة لديها ما تخفيه”.

الصحيفة اعتبرت أن “التذرع بأن هناك حالة طوارئ هو “أمر بخس”، فقد أدت أزمة السيولة، التي اندلعت في أواخر صيف العام 2019، إلى انهيار العملة الوطنية وارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية، كما ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 30 % في عام 2019 إلى 55 % اليوم”.

وأوضحت الصحيفة أن “الدول الغربية والعربية، التي استمرت في إنقاذ لبنان على مدار العشرين عامًا الماضية، رفضت إخراج دفاتر الشيكات الخاصة بها، واشترطت أن يوقع لبنان اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، الذي تفاوضت معه الحكومة اللبنانية من دون جدوى، الربيع الماضي، والذي اشترط سلسلة من الإصلاحات، بما في ذلك مراجعة حسابات مصرف لبنان”.

وقالت إن “ذلك ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: جزء محاسبي بحت، يعهد إلى شركة KPMG، والذي يهدف إلى معرفة الميزانية العمومية لمصرف لبنان بدقة، وقسم “الامتثال” المنسوب إلى شركة “أوليفر وايمان ” للتحقق من أن ممارسات المؤسسة النقدية لا تحيد عن معايير البنوك المركزية، وحساب التدقيق الجنائي للكشف عن الاختلاس المحتمل”.

وذكرت الصحيفة أن “هذه الإجراءات بدأ تنفيذها من قبل حكومة حسان دياب في نهاية آذار/مارس الماضي، إذ كانت تحاول الرد على غضب الشارع، الذي ألقى اللوم على الأوليغارشية السياسية المالية”، مضيفة “بذلك، أظهر دياب الوافد الجديد على الساحة السياسية والذي حلّ مكان سعد الحريري، شجاعة سياسية”.

وتابعت الصحيفة أنه “لتمويل عجز الموازنة والحفاظ على تكافؤ الليرة اللبنانية مع الدولار، لجأ مصرف لبنان إلى ممارسات غير تقليدية وصفت بـ”الهندسة المالية””، موضحة أنه “نظام مصمم لامتصاص الودائع بالدولار من البنوك التجارية، بسعر فائدة مرتفع للغاية”.

وقالت إنه “قبل التعجيل بانهيار القطاع المصرفي، دعمت هذه الترتيبات ثروات مساهمي البنوك، ومن بينهم العديد من السياسيين”، مشيرة إلى أنه “في عام 2016 وحده، ربحت “هندسة” مصرف لبنان للمؤسسات المالية اللبنانية 5 مليارات دولار، وفقاً لصندوق النقد الدولي، أي ما يعادل 10 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، من دون أي تعويض للدولة”.

الصحيفة ذكرت أن “تقرير تدقيق “كلاسيكي” أجرته شركتا “EY” و “Deloitte” في العام 2018، كشف عن عناصر إشكالية أخرى، إذ أشار المدققون إلى أنهم غير مخوّلين بإجراء جردة لمخزون مصرف لبنان من الذهب، بقيمة 5.5 مليار يورو في كانون الأول/ديسمبر 2018، لافتا إلى زيادة مشبوهة في أصولها، في حدود 6 مليارات دولار، بناءً على ممارسات محاسبية مشكوك فيها”.

وبحسب الصحيفة، يشك معارضو سلامة بأن هذه المناطق الرمادية ليست سوى الجزء الناشئ من نظام أكبر، إذ يُشبهون مصرف لبنان بـ”الصندوق الأسود” للنظام السياسي المفترس الذي جعل لبنان حزينًا للغاية”، ونقلت عن الخبير الاقتصادي توفيق كاسبار قوله إن “المصرف تسلّل إلى جميع الدوائر الاقتصادية في البلاد واستفادت الطبقة السياسية منه كثيرًا”.

وفي رد على أسئلة الصحيفة، قال سلامة إن “مصرف لبنان أنجز مهمته وعمل لمصلحة لبنان، العجز المزدوج الذي أدى إلى ضعف أو عجز في الميزانية أو عجز في الحساب الجاري ليس ضمن اختصاصه”، مدعيا أن “مصرف لبنان تعاون مع ألفاريز ومارسال”.

وتابعت أن “الرئيس سعد الحريري، يعارض كذلك التدقيق الجنائي، وهو موقف منطقي نظرًا لتورطه في “Bankmed” وقربه من سلامة، الذي كان لفترة طويلة مدير أموال والده رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005″.

وفي هذا السياق، قال كاسبار إن “الرسالة الضمنية التي وجهها رياض سلامة الى الطبقة الحاكمة، مفادها: “إذا غرقت، تغرق أيضًا”، معتبرا أن “الكارثة اللبنانية هي نتيجة عقود من سوء الإدارة والفساد بقيادة النخبة الأوليغارشية”.

ورأت الصحيفة أنه “على الرغم من الضغوط، فإن حكومة دياب صمدت، وفي تموز اختير مرشحًا جديدًا وهو “ألفاريز ومارسال”، وفي بداية شهر أيلول أرسلت الحكومة إلى مصرف لبنان قائمة بـ129 طلبًا وكان رد المصرف أقرب إلى اعتراض، فيما رفض الأخير تلبية 58 % من طلبات الشركة الأميركية، سواء كانت مالية (تقديم مستندات محاسبية) أو إدارية (تقديم قائمة موظفي مصرف لبنان منذ عام 2015) أو حتى لوجستية (توفير مكتب لمراجعي الحسابات)”.

كما نقلت الصحيفة عن محلل مالي لبناني طلب عدم الكشف عن هويته إن “ألفاريز ومارسال أدركت أن الأمر سيكون جحيمًا، لهذا السبب استسلمت”.

ويبرر سلامة للصحيفة موقفه بالمادة 151 من قانون النقد والائتمان التي “تحظر على البنك المركزي الكشف عن حسابات الآخرين المفتوحة لديه”، وقال إنه “طلب من وزير المالية تفويضًا كتابيًا لتسليم الحسابات السيادية وأن هذا لم يصله أبدًا”.

المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية والذي أغلق باب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي احتجاجًا على عرقلة القطاع المصرفي آلان بيفاني، قال للصحيفة: “تعود حسابات السيادة إلى الدولة وهي الدولة التي فوضت ألفاريز ومارسال، قرر المجلس الاستشاري الأعلى لوزارة العدل أن حجة السرية المصرفية التي استخدمها مصرف لبنان غير مقبولة”.

وذكرت الصحيفة أنه “منذ أيام قليلة، قال الوفد المرافق لسلامة إن تدقيق مصرف لبنان سيُجرى من قبل بنك فرنسا.. فكرة اقترحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يرقى إلى التقليل من أهمية التدقيق الجنائي، وكشفت أن “بنك فرنسا لا ينوي تنفيذ هذه العملية، إنها ملتزم فقط بتقديم المساعدة التقنية، بصفته “طرفا ثالثا موثوقا به””.

وقالت الصحيفة “وراء هذا التقارب، تخشى الأوساط الإصلاحية اللبنانية من ترتيب خلف الكواليس بين مانحي لبنان ومدير مصرف لبنان”، مضيفة أنها “”صفقة” من شأنها أن تدفن التدقيق الجنائي، الذي يعتبر مسيّسًا للغاية، مقابل المكونين الآخرين للمراجعة” .

ونقلت عن مصدر داخل الحكومة إن “المجتمع الدولي غطى طبقتنا السياسية على مدى ثلاثين عامًا، فهل يمكن أن تعرض عليه الإفلات من العقاب مقابل تعهد بسيط بتغيير ممارساته؟”.

وختمت الصحيفة بالقول: “يوم الجمعة 27 تشرين الثاني، خلال جلسة استثنائية لمجلس النواب، تنافس أعضاء البرلمان في التصريحات لصالح التدقيق الجنائي.. تعبئة رسمية بحتة، بدون مشاركة ملموسة، تهدف إلى منحهم الدور الجيد في مواجهة الرأي العام”، وأضافت: “كان بإمكان المسؤولين المنتخبين التصويت لصالح نص ملزم ولكنهم لم يفعلوا ذلك.. لا يلمس أحد مصرف لبنان، صندوق “باندورا” للنظام اللبناني” (في دلالة على أنه يتضمّن كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *