أثارت خطبة إمام وخطيب الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس التي دعا فيها إلى حسن الحوار والمعاملة مع اليهود، لاستمالة قلوبهم للدين الكثير من الغضب في عالمنا الإسلامي على اعتبار أن ظاهر كلامه دعوة للتسامح وجوهره ترويج لجريمة التطبيع مع الكيان الغاصب وهذه كل الحكاية، أما قوله أن “مات النبي ودرعه مرهونة عند يهودي، وعامل يهود خيبر على الشطر ممّا يخرج من زروعهم وثمارهم، وأحسن إلى جاره اليهودي ما كان سببًا في إسلامه”، وما يجري من سرد إننا هو وضع للأدلة في غير موضعها، فالسرد المجرد لسيرة النبي دون دراسة الزمان والمكان هو نوع من التدليس على الناس وليس قراءة خاطئة فقط
وغايته تشكيل غطاء ديني لأكبر مشروع خروج عن ثوابت الدين والحقوق والقيم الأخلاقية والإنسانية والإسلامية، ويأتي ذلك من ضمن حلقة طويلة ابتدأها السديس بتصريح اعتبر فيه أنّ السعودية وأمريكا هما قطبا هذا العالم بالتأثير، ويقودانه إلى الأمن والاستقرار وأن الملك السعودي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، “يقودان العالم والإنسانية إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار والرخاء” وفق تعبيره.
رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود والمشركين من موقع السيادة والريادة وعندما خانوا ونكثوا العهد أخرجهم وقال :”أخرجوا اليهود من جزيرة العرب” واليوم علماء السوء يعيدونهم بعد أن أخرجهم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ويقرونهم على احتلال أولى القبلتين الاقصى الشريف وهذا مستوى مخيف من الجرأة على الله، وأكثر من ذلك يعاد بناء وترميم البيت الذي سكن فيه (لورانس العرب) في الوقت الذي هدم فيه بيت رسول الله ودار الأرقم وكل الآثار الإسلامية بدعوى المحافظة على صفاء الدين ومحاربة الشرك والبدع.
الوقائع كلها تشير إلى قرب إعلان بعض دولنا التطبيع مع دولة الغصب الصهيوني وكان باكورة ذلك فتح المجال الجوي السعودي لعبور الطائرات الصهيونية ومن ثم انطلق العمل على تهيئة الاجواء الشعبية والخطبة ليست بمنأى عن ذلك فهي تعتبر الغطاء الشرعي لدولة تعتبر الإسلام مرجعيتها فكان الخطيب بمثابة من يشتري بآيات الله ثمناً قليلا.
إنّ طبيعة العلاقة من الآخرين يحدّدها القرآن الكريم فمن سالمنا نسالمه ومن قاتلنا ندفع بغيه وعدوانه قال تعالى :” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)” فمن لم يقاتلنا له منا كل القسط والبر والقسط هو أعلى درجات العدل “إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (9) وأمّا من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا وساعد على إخراجنا فليس له إلا العداء ولو كان مسلما، وفي المقابل المسالم له البر وحسن المعاملة ولو كان يهوديا.
لا يجوز للعلماء أن يتحولوا كمروجين لسياسات الأنظمة الظالمة بل واجبهم أن يسددوهم وأن يقولوا في وجوههم كلمة الحق
كما ويحرم عليهم أن يغيروا كلام الله خوفا من الترهيب أو طمعا في الترغيب ومن يفعل ذلك فهو من الظالمين بنص كتاب رب العالمين.
لا شكّ أنّ الطعنة الأشدّ إيلاماً لفلسطين وأهلها وقد تكون الأخطر أنها جاءت من على منبر بيت الله الحرام في مكة المكرمة يعني من المكان الذي من المفترض أن تعقد فيه الألوية لتحرير القدس وفتحها وهي المرة الثانية التي يحدث فيها ذلك فالشريف حسين قبلى مئة سنة في أكذوبة الثورة العربية الكبرى أطلق الطلقة الأولى من مكة المكرمة لمحاربة الدولة العلية العثمانية وقاتلها تحت راية “اللّنبي” و”لورنس” العرب وبالتالي ما نشهده اليوم هو الخيانة الثانية
والمطلوب بكل بساطة أن يقف اهلنا في الجزيرة العربية بكل ما يملكون من مال وسلاح وثروات إلى جانب الشعب الفلسطيني فإن لم يستطيعوا فليقولوا كلمة الحقّ والشاعر يقول:
لا خيل عندك تهديها ولا مال///فليسعف القول إن لم يسعف الحال
خطبة السديس تخدم فقط بقاء الحاكم على كرسيه وتثبيته مقابل مقايضة ظالمة تقوم على بيع المسجد الاقصى وتهويده وبناء الهيكل المزعوم والاعتراف بيهودية الدولة وتحويل إسرائيل إلى دولة من نسيج منطقتنا يلعب فيها هذا الكيان المصطنع دور السيد .
ما حصل مؤشر خطير يدلّل الى اتفاقات قادمة تطبخ في كواليس القصور برعاية الشيطان الاكبر أميركا، وكان الأولى بإمام الحرم أن ينطلق في الحديث عن وحدة الامة والتسامح في ما بين أبنائها وأن يطالب بإطلاق سراح العشرات من رجال الدين وسجناء الرأي الذين يخالفون نهج السلطات الحاكمة .
لقد أصبح واضحاً أنّ السلطان لا يحترم لحية العالم بالنظر الى التقلب المخيف في المواقف وبالتالي يجد علماء السلاطين انفسهم مضطرين للمسارعة بمواكبة توجهات ومواقف الحكام
فمن حرمة تهنئة المسيحيين والهيود بأعيادهم إلى تلميع الصهاينة والدعوة إلى تطبيع العلاقة معهم
ومن النحيب والدموع والتضرع في ليالي القدر من شهر رمضان والدعاء بسحق اليهود ومن والاهم، الى كل التصالح والتسامح مع المحتل والدعوة إلى التطبيع معه ويصور وكأن التطبيع هو من صميم الدين الإسلامي، وكأن اليهود قد أعادوا فلسطين والمسجد الأقصى واعتذروا عن 70 سنة من القتل والمجازر والاحتلال ودفعوا تعويضات كل ذلك .
أين أصبحت مصداقية رجال الدين وهم يتحركون بالريموت كونترول السياسي؟
إن قضية شعب فلسطين هي قضية الأمة الاسلامية بأكملها لانها باختصار قضية مقدسات قضية القدس والمسجد الأقصى وكل شبر من الاراضي الاسلامية المحتلة هي حقّ لكل مسلم على وجه الأرض.
إنّ وعّاظ السلاطين والإعلام المأجور يشكل اليوم قوة صهيونية ناعمة ولا يجوز لهم تجرّأ بالكذب على الله وعلى رسوله باخراج أدلة شرعية في حقيقتها وإنزالها في غير محلها، فصلح النبيﷺ وتعاملاته مع اليهود إنما كان مع غير المحارب، والصهاينة محاربون قولاً واحداً.
وبناء عليه على كل اولئك ممن يحتسبون على رجال الدين أن يعترفوا أنهم تلاعبوا عمداً بالدين، وكذبوا على الله إرضاء للحاكم، وهذا فساد في الأرض وإفساد في الدين، فلقد استغلوا منبر الحرم الشريف لتسويق التطبيع، ومن سخرية الاقدار أن يقوم مثل هؤلاء بتوجيه الدعوات إلى التحالف مع أمريكا لمحاربة من يسمونهم جماعات العنف والكراهية والحقد، هل الصهاينة ومن خلفهم الا اصل العنف والقتل والارهاب ؟
بالنهاية أثبت تاريخ العداء مع المحتلين أن السبيل الوحيد لتحرير الأرض هو كما ورد في القرآن الكريم :” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
كما ويقول عز وجل :” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”.
فإلى موعد قريب مع التحرير أسأل الله الا يفتننت وأن يحفظ علينا ديننا .
والحمد لله رب العالمين