يعرف المطّلعون أنّ الأزمة الإقتصادية-السياسية أسقطت لبنان في هاوية كادت تفرض الفوضى الداخلية المفتوحة على كل السيناريوهات. لكن الأصوات الخارجية إرتفعت لمنع ترك لبنان يغرق في مستنقع من دون قعر. اللافت أن تقارير دولية تحدّثت عن أن مسار الأزمة اللبنانية لا يُضعف “حزب الله”، كما يرغب الأميركيون والإسرائيليون، بل إن بيئة الحزب المذكور المتماسكة تستطيع الصمود، بينما يسقط خصومه جرّاء تدحرج طابة الأزمة الإقتصادية. وهو ما تم لمسه فعلياً في لبنان خلال الأيام الماضية.
اساساً، لا روافد مالية تأتي لقوى لبنانية كانت إعتادت على المال السياسي الوافد إلى البلد منذ عقود، سوى ما يأتي للحزب المذكور من دعم إيراني مالي ومعنوي. كان يعتقد الأميركيون أن تجفيف السيولة في لبنان سيدفع الشعب اللبناني للثورة ضد “حزب الله”، أو على الأقل فكفكة البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة. لهذا جرى استحضار التوجيه الإعلامي والتصويب السياسي ضد سياسة “حزب الله” الإقليمية تارة، أو “حمايته للفساد الداخلي” تارة أخرى. من هنا كان تركيز الخطاب الشعبوي المدروس عند عدد من الشخصيات والإعلاميين لتحميل الحزب مسؤولية المآسي اللبنانية. لكن تبيّن أن الخطة لم تثمر، لا بل رفع “محور المقاومة” خطابه وإستعداداته، كما جاء في خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن مواجهة الجوع وعدم ترك السلاح، لا بل إستخدم مصطلح “سنقتلكم” في مخطابته أعداء لبنان.
إستطاع “محور المقاومة” أن يجتاز مساحة كبيرة من الألغام اللبنانية والإقليمية. لذا، توالت التقارير الغربية، والإسرائيلية، فأورد جوهر مضمونها الخشية من “إمساك محور المقاومة لبنان”. ثم سمعت أيضاً السفيرة الأميركية دوروثي شيا من لبنانيين ذات التحذير مسنوداً إلى شواهد ومحطات لبنانية: البيئة الحاضنة للمقاومة إستعدّت للزراعة وتأمين الإكتفاء الغذائي، وهي منفتحة بالأساس على سوريا. سارع الأميركيون إلى التدخل بشكل غير مباشر عبر ضوء أخضر تلقته الحكومة العراقية لفتح باب التعاون الإقتصادي مع لبنان، ثم بشكل مباشر عبر حراك أميركي دبلوماسي وعسكري تجاه لبنان.
وإذا كان الأميركيون أوحوا أنهم سارعوا لإنقاذ البلد من أزمته، وان ما يطالبون به هو إصلاح فقط، فإن حقيقة الحراك الأميركي دار بشكل أساسي حول إعادة التفاوض بشأن الحدود الجنوبيّة. هو ما طرحته السفيرة الأميركية في لقاءاتها في عين التينة والسراي الحكومي. يريدون بت هذا الملف الآن بعد ان جربوا ان ينزعوا التفاوض من ملعب رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن لم تنجح الخطة، لا بل ان التنسيق بين بري والنائب جبران باسيل أحبط المراهنين على خلاف بين بعبدا وعين التينة في هذا الشأن.
أما الرسالة العسكرية التي تزامنت مع اعادة طرح ملف التفاوض بشأن الحدود الجنوبية، فكانت الطلب الأميركي من قيادة الجيش اللبناني زيادة أعداد العسكريين على كامل الحدود اللبنانية. هنا لا يستطيع ان يلبي لبنان تلك الطلبات لإعتبارات لها علاقة بالعديد، والقدرات، عدا عن الحسابات السياسية. فالمؤسسة العسكرية هي الضابط الفعلي للساحات الداخلية، وهي التي تفرض الاستقرار عندما تحز المحزوزية، وهي الوحيدة التي تستطيع ان تحقق الأمن الداخلي الكامل بمؤازرتها للقوى الأمنية الاخرى. لا يمكن للجيش أن يُحدث فراغاً في الداخل من أجل نشر مزيد من عسكرييه على الحدود.
لذا، يبدو ان الأميركيين يريدون طرح جدول اعمال جديد مع لبنان، قائم على أساس: نساعدكم شرط تلبية شروط مرتبطة بالحدود اولاً، تجر معها موضوع حقول الغاز في البحر. تصبح هنا الحكومة مجرد تفصيل، قابل للدعم. وهو ما لمسه المطلعون في الساعات الماضية وتوجه غداء السراي الحكومي بين رئيس مجلس الوزراء حسان دياب والسفيرة الأميركية بعد انقطاع وجفاء.
بعد حصول هذه المستجدات، هل يعود رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لإبلاغ المعنيين بنيته القبول بتأليف حكومة بعد ممانعته سابقا؟ هل يقبل زميله رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي بطرح توليه تلك المسؤولية؟ ربما يوحي التعاطي الخارجي المستجد تجاه لبنان بتغييرات في مواقف سياسية قد تُترجم حول الحكومة الآن أو لاحقاً، رغم مد أنبوب الإنعاش للحكومة الحالية. كل شيء وارد، لا سيما في حال حصل اندفاع عربي مرتقب عند قطر والكويت ودول خليجية أخرى بعد المستجدات الأميركية.النشرة