“رؤية 2030” تدخل عامها الرابع: القاع مزدحم بالإخفاقات!

مرّت ثلاث سنوات على إعلان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، رؤيته الاقتصادية “2030”. وفيما تتجه الميزانية السعودية إلى مزيد من العجز على خلفية هبوط أسعار النفط، تظهر الرؤية التي طرحها بن سلمان متعثرةً في تخفيض العجز العام، وإيجاد بدائل مؤثرة في النمو الاقتصادي عن النفط، كما تنص بنودها، والذي لا تزال المملكة تعتمد عليه بشكلٍ أساسي في إيراداتها المالية. ويعود ذلك إلى أسبابٍ عديدة، تتمحور جميعها حول النتائج المترتبة على قرارات بن سلمان، فتلك الرؤية التي استند عليها لإبراز نفسه عندما كان وليًّا لولي العهد، صاحبتها هالة إعلامية ضخمة، أخفت عراقيل كثيرة تصطدم بها، بدأت تظهر تباعًا، في ظلّ سياسات متهورة يتبعها ولي العهد، أفرزت العديد من الأزمات التي وضعت رؤية “2030” في خانة الميئوس من نجاحها.

“أرامكو”

ارتكزت سياسة “تنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط” بما يتلاءم مع رؤية “2030” على بيع ما نسبته 5 في المئة من شركة “أرامكو” النفطية العملاقة، بعد طرحها في البورصات العالمية. وكان مقررًا أن تتم عملية الطرح في النصف الثاني من عام 2018 بعد تأجيلها لعدّة مرات خلال السنوات الماضية. إلا أن قرارًا مفاجئًا من قبل الملك سلمان في آب/اغسطس الماضي، ألغى عملية الطرح، فيما ذهبت مصادر حكومية سعودية للقول إن العملية تأجلت ولم تلغ. وبغض النظر عن حصول تأجيل أو الغاء، فإن عدم حدوث عملية البيع حتى اللحظة، يكشف عن اخفاقٍ طال الأسس التي قامت عليها رؤية بن سلمان الاقتصادية، لا سيما وأن عملية الطرح كان من المزمع أن تجمع 100 مليار دولار من الطرح الأولي للشركة المقيَّمة من قبل الحكومة السعودية بتريليوني دولار. فيما تشير المعطيات إلى أن بن سلمان دفع والده إلى اتخاذ مثل هكذا قرار بعد تيقنه من فشل الخطة وآثارها الكارثية، وبقي هو في خلفية المشهد كي لا يتحمل وزر النتائج المترتبة. ويعزى سبب الإلغاء إلى أن الطرح العام الأولي سيدفع “أرامكو” للإفصاح الكامل عن كل تفاصيلها المالية، كما طلبت بورصتا لندن ونيويورك، ما سيكشف عن القيمة السوقية الحقيقية للشركة، والتي قدرها مستثمرون بأقل من تريليوني دولار بكثير، وسط مخاوف من أن تتعرّض “أرامكو” لدعاوى قضائية إذا ما طرحت في بورصة نيويورك كما كان يروّج، لا سيما وأن قانون القصاص من رعاة الإرهاب “جاستا” الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي في عام 2016 يجيز إقامة دعاوى قضائية ضد الحكومة السعودية لأنها “ساعدت في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر”.

تباطؤ نمو الاقتصاد غير النفطي

تباطأ نمو القطاع غير النفطي في المملكة إلى 2 في المئة في الربع الرابع من العام 2018 مقابل 2.02 في المئة في الفترة نفسها من العام 2017 وفق بيانات “الهيئة العامة للإحصاء” (رسمية) التي صدرت مؤخرًا، في حين نما القطاع النفطي بنحو ستة في المئة على أساس سنوي، بفعل التحسن الذي طرأ على الأسعار، وزيادة المملكة لإنتاجها النفطي بعد الطلبات الأمريكية لذلك، لتعويض غياب النفط الإيراني من الأسواق العالمية بفعل العقوبات. ما يعني، أن نمو الاقتصاد السعودي لا يزال يعتمد بنسبة كبيرة على إيرادات القطاع النفطي المعرّض للخضات والأزمات في أي لحظة، على خلاف توصيات رؤية “2030” حيث تشكل الإيرادات النفطية النسبة الأكبر من الناتج المحلي. وكانت وكالة “بلومبيرغ” الاقتصادية الأمريكية، قد أكدت في شباط/فبراير من العام الجاري، أن “الرؤية القائمة على تنوّع الاقتصاد السعودي لا تزال بعيدةً عن التجاوب، بفعل تباطؤ نمو الاقتصاد غير النفطي في المملكة” مشددةً على أن “جهود الرياض لتنويع اقتصادها والابتعاد عن الإيرادات النفطية كمصدر وحيد لتعزيز وضع المالية العامة فشلت حتى الآن”.

هروب المستثمرين

خلال فترة إعلانه عن رؤيته الاقتصادية قال بن سلمان إنه “سيعتمد على رأس المال الوطني والقطاع الخاص” في خطة التحول من الاقتصاد النفطي إلى الاقتصاد غير النفطي، إلا أن ممارسات ولي العهد الداخلية، منذ حملة الاعتقالات التي طالت العديد من الأمراء ورجال الأعمال، أدّت إلى أزمة ثقة محلية ودولية في الاقتصاد السعودي، زاد من حدتها خلال الأشهر الأخيرة، تورّط بن سلمان في مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول. وأفضت ممارسات بن سلمان المتهورة إلى هروب رأس المال والثروات المحلية من السعودية إلى الخارج، إذ قدّر مصرف “جي بي مورغان” الأمريكي في تقرير، حجم الثروات السعودية التي هربت من المملكة إلى الخارج خلال العام 2018 بنحو 90 مليار دولار، وقد فاقت حجم الاستثمارات التي هربت من المملكة في العام 2017، والبالغة 80 مليار دولار، وفقًا للتقرير ذاته، وسط توقعاتٍ أن يتزايد حجم الأموال السعودية التي ستهرب من المملكة خلال العام الحالي، لتصل إلى أكثر من 100 مليار دولار. ووفق تقارير اقتصادية عديدة، فإن رجال المال في السعودية ومنذ حملة الاعتقالات باتوا يخفون ثرواتهم ولا يشاركون في تمويل مشاريع داخل المملكة. وظهرت معالم هروب المستثمرين المحليين، بتغريدة مثيرة نشرها الحساب الرسمي لإمارة منطقة مكة، في كانون الثاني/يناير الماضي، نقلًا عن أمير مكة خالد الفيصل، وهو يخاطب المستثمرين السعوديين قائلاً: “اتقوا الله في بلادكم وفي أنفسكم، واستثمروا في الداخل”.

وعلى صعيد رأس المال الخارجي، ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية مؤخرا، أن بن سلمان قال لعددٍ من المستثمرين الأجانب خلال اجتماعٍ معهم إن “أحدًا لن يستثمر في مشروع نيوم خلال السنوات القادمة بسبب مقتل خاشقجي” حيث صرح ولي العهد للمستثمرين الأجانب أن “المملكة ستواصل الاستثمار بشكل أكبر في الاقتصاد التقليدي” وهو ما يعني إحجام المستثمرين عن المشاركة في مشروع “نيوم” الضخم، لبناء مدينة تكنولوجية ذكية على ساحل البحر الأحمر، والبالغة كلفتها 500 مليار دولار، والذي وصفه بن سلمان بأنه “سيغير خريطة الاقتصاد السعودي كليًا”. وتأتي تصريحات بن سلمان تلك، بعد أن قرر عدد من مستشاري ومستثمري مشروع “نيوم” الابتعاد عنه، بمن فيهم المهندس المعماري البريطاني البارز نورمان فوستر، والذي كان من بين أعضاء المجلس الاستشاري للمشروع، على خلفية مقتل خاشقجي، مفضلين قطع صلاتهم بولي العهد، حفاظًا على سمعتهم الدولية. وعلى الرغم من أن “رؤية 2030” تهدف إلى رفع نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة من إجمالي الناتج المحلي من 3.8 في المئة إلى المعدّل العالمي وهو 7.5 في المئة ليصبح 18.7 مليار دولار في العام 2020 إلا أن تقرير منظمة “الأونكتاد” التابعة للأمم المتحدة، أشار إلى انكماش تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى السعودية، حيث سجل عام 2017 مثلاً انخفاضًا إلى 1.4 مليار دولار، متراجعةً من 7.5 مليار دولار في عام 2016، في وقتٍ أكدت تقارير اقتصادية أن مستثمرين أجانب سحبوا من السعودية نحو 165 مليون دولار في أيلول/سبتمبر، و1.4 مليار دولار في تشرين الأول/أكتوبر، من العام الماضي، وذلك قبل مقتل خاشقجي بمدة قليلة، فكيف سيكون الحال خلال العام الجاري، في ظل الضغوطات لمتفاقمة؟

الواضح أن الاستثمارات الأجنبية والمحلية في تراجعٍ كبير منذ إطلاق رؤية “2030” حتى الآن، وبدلَ أن تعمد الحكومة السعودية إلى معالجة هذه الأزمة، وتشجّع على الاستثمار الداخلي، فإن سياسة بن سلمان توجهت عكس ذلك، عبر الاستثمار الحكومي خارج البلاد أيضًا. ويذكر من تلك الاستثمارات مئات مليارات الدولارات التي انفقتها المملكة في القطاعات الأمريكية لا سيما العسكرية منها، كالصفقات التي أبرمها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مع السعودية خلال زيارته عام 2017 والتي تجاوزت 400 مليار دولار، من بينها 110 مليار دولار مبيعات أمريكية عسكرية للرياض. ولا تزال الحكومة السعودية، مستمرة على هذا المنوال المدمر للاقتصاد المحلّي.

ارتفاع البطالة

فور انتهاء زيارته إلى السعودية وعقده لتلك الصفقات، عام 2017، خاطب ترامب الأمريكيين في تغريدة قائلًا: “إحضار مئات مليارات الدولارات من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة يعني وظائف، وظائف، وظائف”. في الوقت ذاته، كانت نسبة البطالة في السعودية تصل إلى أرقامٍ قياسية عند 12.8في المئة، مرتفعةً عن عام 2016 حيث سجلت حينها حوالي 11.6 في المئة لتصل في العام 2018 إلى رقمٍ قياسي جديد عند 12.9 في المئة وفق بيانات الهيئة العامة للإحصاء. والجدير ذكره، أن الهيئة لا تحتسب “الباحثين عن العمل” والمسجلين في السجلات الإدارية ضمن نسبة البطالة، باعتبار أن ليس كل باحث عن عمل يعتبر مُتعطلاً، فقد يكون يبحث عن عمل وهو على رأس عمل آخر. لكنّ تقريرًا للهيئة يوضح أن نسبة العاطلين عن العمل في المجمل داخل المملكة، تفوق نسبة البطالة المذكورة، بما أنه ذكر أن المتعطلين الذين لم يسبق لهم العمل، هم أغلبية ساحقة بنسبة 91 في المئة ونسبة 9 في المئة للذين سبق لهم العمل. وتشير أرقام أصدرتها الهيئة، إلى أن أغلبية المتعطلين تركوا أعمالهم إمّا بسبب التسريح أو بسبب قلة الراتب، في حين وصلت نسبة العاطلين عن العمل من حملة شهادات الدبلوم والدكتوراه إلى 58.7 في المئة.

عند اعلان رؤية “2030” كان الهدف خفض نسبة البطالة من 11.6 في المئة إلى 7 في المئة لكن الأرقام تشير إلى أن البطالة ترتفع مع مرور السنين. في المقابل، لم يكن لسياسة “سعودة القطاعات” أي تأثيرٍ إيجابي على نسبة البطالة كما هو متوقع منها، فالقطاعات الحكومية والخاصة لا تخسر اليد العاملة الأجنبية لصالح اليد العاملة المحلية، أي أن مكان العامل الأجنبي بشكلٍ عام لا يشغله العامل السعودي. وبمعنى آخر، فإن الشركات تستغني عن اليد العاملة الوافدة بسبب أزمات مالية تمر بها أو بسبب قرار الحكومة زيادة الرسوم على الوافدين، وليس بسبب قرار “سعودة القطاعات” بالأخص أن الزيادات الضريبية والإجراءات التقشفية الأخرى الهادفة إلى سد العجز في الموازنة، جميعها عوامل تؤثر سلبًا في إنتاجية وديمومة القطاع الخاص. وعلى سبيل المثال، ووفقًا لهيئة الإحصاء السعودية، فإن حوالي ربع مليون عامل أجنبي خرجوا من سوق العمل السعودي خلال الربع الأول من العام الماضي ووصلت النسبة إلى حوالي مليون مع نهاية الربع الثاني، وهي الفترة ذاتها التي بلغت فيها نسبة البطالة في المملكة رقمها القياسي، والذي لامس 13 في المئة أي أن خروج الوافدين لم يلحقه انخفاض في نسبة البطالة.

مستقبل قاتم!

بالتوازي مع هروب المستثمرين والنمو البطيء في الاقتصاد غير النفطي، وفشل الاعتماد على القطاع الخاص في الشراكة مع القطاع العام، وما يرافق ذلك من ارتفاع في نسبة البطالة، وزيادة الضرائب على المواطن، يتواصل ارتفاع الدين العام السعودي والذي متوقع أن يصل مع نهاية العام الجاري إلى 180 مليار دولار، بما يعادل 21.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن سجل في نهاية العام 2018، 150 مليار دولار، بنسبة 19.1 في المئة من الناتج المحلي، وبعد أن كانت نسبته في عام 2016، 13.1 في المئة من الناتج المحلي، وفقًا لأرقامٍ صادرة عن وزارة المالية السعودية، فيما تخطط المملكة لإصدار أدوات دين بقيمة 31.5 مليار دولار هذا العام، للمساعدة في تمويل عجز الموازنة العامة.

بناءً على ما تقدّم، فإن الأمور تزداد سوءًا على كافة الصعد، وفي مختلف المجالات، منذ الإعلان عن رؤية “2030” وكأن تلك الرؤية جاءت لتزيد الأزمات الاقتصادية تعقيدًا. ويبدو أن بن سلمان سيتربّع خلال السنوات المقبلة، على عرش “أفشل المخططين الاقتصاديين حول العالم” لقاء سياساته الهادفة للوصول السريع إلى عرش المملكة. فأي عرشٍ سيصل اليه ولي العهد أولا؟

عباس الزين – القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *