أيّ رسائل للاشتباك الأميركي -الإيراني على أرض لبنان؟!

فيما كانت زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ​ديفيد هيل​ لا تزال تخضع للتفسيرات والتأويلات في الداخل اللبناني، وسط تنوّع القراءات لرسائلها وأهدافها، بل تناقضها إلى حدّ بعيد، جاء الردّ ال​إيران​ي عليها من قلب الساحة اللبنانية، ليفجّر اشتباكاً لطالما سعى اللبنانيون إلى “النأي بأنفسهم” عنه، ظاهرياً على الأقلّ.

وإذا كان كثيرون رصدوا في المواقف التي أطلقها هيل خلال زيارته إلى لبنان، “تشدّداً” أميركياً حيال الوضع اللبناني، بعيداً عن سياسة “المراعاة للخصوصية اللبنانية” التي كانت تطبع الدبلوماسيّة الأميركيّة في السابق، فإنّ هذه “المراعاة” غابت أيضاً عن الردّ الإيراني، الذي قرأ فيه البعض “زجاً” للبنان في الصراع، بمُعزَل عمّا إذا كان “البادئ أظلم”.

فلماذا انفجر الاشتباك الأميركي-الإيراني على أرض لبنان؟! وأيّ رسائل داخليّة وخارجيّة أراد اللاعبان توجيهها، من قلب الساحة اللبنانية؟ وقبل هذا وذاك، هل يتلقّف اللبنانيون هذه “الرسائل”؟ وكيف يستعدّون لذلك؟!.

تشدّدٌ واضح

كثيرة هي التفسيرات التي أعطيت لزيارة السفير ديفيد هيل إلى لبنان، سواء لجهة توقيتها أو رمزيتها، أو لجهّة الأهداف المتوخّاة منها والتي تُقرأ من طبيعة شخصيّة الزائر الأميركي الذي سبق أن عمل في لبنان، ما يعني أنّه مطّلع على التفاصيل اللبنانية وعارفٌ بخصوصيّاتها.

لكن، وعلى رغم ذلك، فإنّ أيّ “مراعاة” لهذه الخصوصيّة لم تُرصَد خلال الزيارة، التي كانت مواقف المسؤول الأميركيّ فيها أكثر من “حازمة”، حيث مرّر من خلالها رسائل بالجملة إلى الداخل والخارج، بدءاً من تشديده على رفض وجود “ميليشيا خارجة عن سيطرة الدولة” في إشارة إلى “​حزب الله​”، وصولاً إلى “تشجيعه حكومة تصريف الأعمال على المضيّ قدماً حيث يمكنها”.

ومع أنّ هيل شدّد خلال لقاءاته المختلفة، ولا سيّما خلال اجتماعه مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، على “الدعم الأميركي القوي والالتزام بلبنان آمن ومستقر ومزدهر”، مؤكداً “دعم بلاده للبنان في المجالات كافة”، فإنّ كثيرين توقّفوا عند دعوته الضمنيّة إلى تفعيل حكومة تصريف الأعمال، بدلاً من التشجيع على ​تشكيل الحكومة​ اليوم قبل الغد، ما أثار الهواجس وحتى الريبة لدى شريحة من اللبنانيين.

وإذا كان البعض وضع موقف هيل في إطار اقتناع واشنطن بأنّ الحكومة الجديدة معطّلة، وأنّ لبنان لا يمكنه انتظار الفرج فقط، فإنّ آخرين قرأوا فيه “رسالة” من وحي “التشدّد” نفسه الذي طبع زيارة المسؤول الأميركي، مفاده أنّ الولايات المتحدة لا تريد حكومة يكون لـ”حزب الله” الغلبة فيها الآن، علماً أنّ مثل هذه الرسالة قُرئت من خلف سطور هيل حين قال إنّ “اختيار الحكومة أمر يعود للبنانيين وحدهم، لكن نوع الحكومة المختارة يهمنا جميعاً نحن المهتمّين بلبنان مستقر ومزدهر”.

لبنان في الميدان؟!

وإذا كانت مواقف هيل المتعدّدة شغلت المسؤولين اللبنانيين في محاولة لـ”فكّ” الألغاز الكامنة خلفها، خصوصاً أنّ الزيارة استُبِقت أصلاً ببيانٍ للسفارة الأميركيّة في لبنان أعلن “مسبقاً” عن مغزى الزيارة من خلال الإشارة إلى “قلق الولايات المتحدة من نشاطات حزب الله”، فإنّ ثمّة من ربطها بالاستنفار الذي شهدته الحدود اللبنانيّة الجنوبيّة مؤخراً، على وقع ما سُمّيت بعملية “درع ​الشمال​”، والتي أعلن ​الجيش الإسرائيلي​ قبل أيّام نهايتها، وهي عمليّة يعتبر كثيرون أنّها “مفتعلة”، لاعتباراتٍ وحساباتٍ قد تكون داخلية إسرائيلية في جزءٍ منها، لكنّها قد تخفي وراءها نوايا غير بريئة.

ولتكتمل فصول “التوريط” اللبناني في المواجهة، أتى الرد الإيراني “المزدوج”، من خلال البيان المطوّل الذي أصدرته السفارة الإيرانيّة في ​بيروت​ رداً على هيل، والذي لم يخلُ من العبارات التي قد تبدو “نافرة” في اللغّة الدبلوماسيّة، أو من خلال زيارة السفير الإيراني محمد جلال فيروزنيا إلى ​بيت الوسط​، ولقائه رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​، للمرة الأولى منذ تسلّمه مهمّاته، في إشارة قرأ فيها البعض “تعمّداً إيرانياً” للردّ على هيل من المنبر نفسه الذي أطلق فيه مواقفه، وإن خفّف البعض من هذا التفسير عبر القول إنّ الموعد محدَّد مسبقاً ولا خلفيّات له من قريب أو بعيد.

وفي حين اعتبر البعض أنّ الردّ الإيراني جاء بشكلٍ أساسيّ اعتراضاً على الاتّهامات التي وجّهها هيل إلى إيران، هو الذي تعهّد بـ”طرد كل وجود عسكري إيراني من ​سوريا​”، فإنّ “التشدّد” كان أيضاً سمة بارزة فيه، وهو ما يبرّره البعض بالقول إنّ إيران قرأت في زيارة هيل إلى لبنان، بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بوبيو على بعض دول المنطقة، محاولة لتضييع البوصلة، والتغطية على “الهزيمة” التي مُنيت بها الولايات المتحدة بوضوح في سوريا، بدليل انسحابها العسكري منها.

إلا أنّ البيان الإيراني لم يقتصر على الملفّ السوري، بل إنّ لبنان شكّل الحيّز الأكبر منه، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ الملف اللبنانيّ عاد ليشكّل إحدى ساحات المواجهة الأساسيّة بين واشنطن وطهران، بل ربما أبرزها، خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وهو ما ُفِهم من خلال تبادل الرسائل بين الجانبين، وما يخفيه من منافسة، معلنة أو مستترة، على “النفوذ” إن جاز التعبير.

ولعلّ المخاوف الأساسيّة تكمن في هذه الزاوية بالتحديد، لأنّ لبنان الذي يعتمد سياسة “النأي بالنفس” منذ سنوات، سواء إزاء ​الحرب السورية​، أو إزاء صراع “المحاور”، في ضوء الانقسام العمودي الذي تشهده مكوّناته، لا يبدو “محصَّناً” كفاية لمواجهة أيّ “سيناريوهات” يمكن أن تُرسَم له، وهو الذي لم يستطع حتى اليوم تشكيل “حكومة الوحدة” التي، إنْ كان صحيحاً أنّ الرهان عليها للنهوض بالوطن خائبٌ سلفاً، قد تشكّل “عنصر قوّة” في مواجهة أيّ مخططاتٍ للخارج.

كيف يواجه اللبنانيون؟!

بمُعزَلٍ عن “الجزئيّة” السوريّة من الاشتباك الأميركي-الإيراني على الأرض اللبنانيّة، يبقى الأهمّ للبنانيين، أن يقرأوا ما خلف الزيارة الأميركية والردّ الإيراني عليها، من “دفعهم” مجدّداً إلى ساحة المواجهة. فالأميركيّ يرفض “التشاطر” عليه ولا يريد حكومة يكون فيها نفوذ لـ”حزب الله”، والإيراني يردّ عليه قائلاً إنّ “لبنان أصبح بفضل قيادته الحكيمة وحكومته وشعبه وجيشه ومقاومته المسؤولة، رقماً صعباً في المعادلات الإقليميّة”، في غمزٍ من قناة “حزب الله” أيضاً.

قد يكون كلّ ما سبق “كلاماً بكلام” على وقع “​الحرب الباردة​” الدائرة بين واشنطن وطهران منذ سنوات. ولكنّ الاحتمالات الأخرى ينبغي أن تؤخذ على محمل الجدّ، فكيف يستعدّ لها لبنان، هو الذي يبدو أنّ حكومته المنتظرة تراجعت عن سلّم أولويات مسؤوليه في الأيام الماضية؟ هل يكون تفعيل حكومة تصريف الأعمال هو الحلّ، عملاً بـ”النصيحة” الأميركية، أم يعي اللبنانيون جميعاً أخيراً، أنّ أيّ تأخير إضافي في تشكيل الحكومة لا يكبّدهم خسائر اقتصاديّة فحسب، بل يضع الوطن في مهبّ الخطر الحقيقيّ، الذي لن ينفع في مواجهته مقعدٌ بالزائد أو بالناقص؟!.

النشرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *