رسائل “درع شمالي”: اقرار بقوة الردع ومخاوف من الخيارات المفتوحة

تعامل كيان العدو مع عملية “درع شمالي” كما لو أنها عملية وقائية تهدف إلى إزالة أخطار محدقة بالمنطقة الشمالية. وبغض النظر عن مدى صحة ما أدلى به من معطيات لجهة الأنفاق وأعدادها، فما جرى هو ترجمة لقرار اتخذته القيادتان السياسية والعسكرية بناء على تقدير وضع تناول مروحة من الخيارات. وليس من الصعوبة استشراف الخيارات البديلة التي تم تجنبها وأسباب ذلك. بحسب تقارير اسرائيلية دقيقة تبين أنه كان هناك قدر من التباين في أصل الموضوع وتوقيته، وفي النهاية ضغطت قيادة الجيش على المستوى السياسي من أجل تنفيذه في هذه المرحلة بالذات. ولا يبعد أن يكون في خلفية هذا الضغط مصلحة رئيس الاركان غادي ايزنكوت تسجيل انجاز ما في تاريخه قبل أيام على تسليمه خلفه، اللواء افيف كوخافي، المنصب.

في ضوء الخطاب الدعائي الاسرائيلي الذي له سياقاته الداخلية، خاصة وأنه تزامن مع حملة انتخابية حامية، من الواضح أن نتنياهو يعمد الى تظهير العامل الأمني لحسابات قضائية وسياسية. مع ذلك، فإن للقضية أبعاداً أكثر عمقاً تتصل بقراءة الكيان الاسرائيلي لأعدائه وخططهم وقدراتهم.

أدركت “اسرائيل” ـ في ضوء فرضية صحة ما تعلنه عن الأنفاق ـ أن حزب الله يملك كامل الارادة والقدرة على الاستعداد لكافة السيناريوهات، في مواجهة أي خيار عدواني على لبنان. وباتت “تل أبيب” أكثر ادراكا لحقيقة أن حزب الله يستعد لخيارات هجومية أيضا، بأهداف دفاعية، في مواجهة التهديدات الاسرائيلية. وهو ما كان واضحا في كلام رئيس شعبة الاستخبارت العسكرية اللواء “تامير هايمن” الذي اعتبر أن “الأمر لا يتعلق بعملية، هدفها تدمير الأنفاق الهجومية لحزب الله، بل إنها عملية هدفها عرقلة الخطة الهجومية الاساسية لحزب الله…”. وتابع ايضا إن “المكون الهجومي فيها، كان جزءًا منها، وهو جزء مركزي وحاسم ومهم، ولكن ليس الجزء الشامل، أي ليس كل الخطة”.

أياً كانت حقيقة عدد الأنفاق التي يقول العدو إنه اكتشفها، إلا أنه يدرك أيضا أن “اسرائيل” تعلم ما اكتشفته، وتبقى دائرة المجهول عاملاً مقلقاً بالنسبة للكيان، وسوف يحضر على طاولة القرار في “تل ابيب” لدى دراسة أي خيارات. وتدرك القيادة الاسرائيلية من موقع التجربة الطويلة مع حزب الله، أن من أهم مزاياه الاستفادة من التجارب، وهي أحد أهم منابع تطوره. وعلى المدى البعيد من الواضح أن ما اضطرت “اسرائيل” الى كشفه الآن سيكون في مصلحة حزب الله لاحقاً، ويبدو أن هذا ما دفع قسم البحوث في الاستخبارات العسكرية الى رفض عملية “درع شمالي” والابقاء على حالة الغموض. لكن معطيات وتقديرات ومخاوف من مفاجآت حزب الله فرضت عليهم ذلك. وهكذا انقسمت الاستخبارات بين خائف من تداعيات المحافظة على الغموض، وآخر يخشى من تداعيات الكشف!

مع أن كيان العدو تحدث عن أنفاق هجومية، وأنها اخترقت أراضيَ “سيادية” (الاراضي الفلسطينية المحتلة) إلا أنه حرص على ابقاء خيار المعالجة محصوراً خارج الأراضي اللبنانية، تفادياً لرد المقاومة، خاصة وأن طائرات سلاح جو العدو تخرق السيادة اللبنانية في كل يوم. وهكذا تحوَّلت عملية “درع شمالي” مرة أخرى الى محطة اضافية تجلت فيها من جديد قوة ردع المقاومة.

في كل الأحوال، ما جرى على الحدود مع لبنان جزء من سياق أوسع، له رسائله الاقليمية التي تؤكد على استمرار صراع الجهوزية بين المحورين. من جهة “اسرائيل” تطور قدراتها، وفي المقابل تراكم المقاومة قدراتها وتنوِّع خياراتها العملانية وتكتيكاتها العسكرية، وهو ما أنتج قوة ردع يعترف بها العدو قبل الصديق، ينعم في ظلها لبنان بالأمن والاستقرار الذي ميّزه عن محيطه العربي.

  • “درع شمالي”: هي الترجمة الحرفية للتسمية التي اطلقتها قوات الاحتلال على اعمال التجريف التي تجريها على الحدودو اللبنانية ـ الفلسطينية.. المصدر: العهد الاخباري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *