يعثر مناصرو ابن سلمان على أوجه شبه بينه وبين جدّه عبد العزيز (ابن سعود). ولا تخلو أوجه الشبه من وجاهة، في الحد الأدنى لناحية النهج الدموي في التأسيس لدى ابن سعود وإعادة تشكيل السلطة لدى الحفيد ابن سلمان.كان الصراع على السلطة ــــ بطابعه الدموي في أحيان كثيرة ــــ داخل البيت السعودي سمة غالبة منذ بدء العمل على إقامة كيان سياسي خاص
لم تكن السياسة العائلية السعودية لبناء سلطة مركزية مصمّمة لخلق إجماع داخلي، إذ كان عامل القوة حاسماً في معادلة السلطة. إن سمات الشخصية الحاكمة كانت تطبع السياسة العائلية وليس العكس، وإن بدا في الظاهر أن التوافق الداخلي هو العامل الحاسم في تداول الحكم وتوارثه. فقد نشب خلاف بين محمد بن سعود مؤسس السلالة السعودية الحاكمة، وإخوته من أبيه ثنيان ومشاري وفرحان على تقاسم الحكم، ولكن نجح محمد في تركيز السلطة في بيته بعد تحالفه مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1744. وهذا يشي بنوع التحالف الذي أبرمه محمد بن سعود مع ابن عبد الوهاب والذي كان يهفو الى تنشئة سلطة زمنية يمسك بزمامها وليس بناء دولة دينية، بحسب الرواية الرسمية.
بعد موت محمد بن سعود تفجّر نزاع مسلح بين أبنائه وأحفاده، حيث تولى عبد العزيز بن محمد بن سعود الحكم، ومات في عام 1803، وخلفه ابنه سعود المعروف بـ«الكبير»، حتى وفاته في عام 1814. وانقطع نسل هذا الفرع في الحكم ليتولى عبد الله الذي ورث الحكم من ابن أخيه سعود، حتى سقوط الدولة السعودية الأولى في عام 1818، حيث اعتقلته القوات المصرية التي جاءت الى الدرعية، وهدمتها، وأسقطت دولة آل سعود، ونقلته إلى مصر، ثم إلى تركيا حيث أعدم هناك، وقطع رأسه، وعلّق في شوارع اسطنبول.
بدا العامل الشخصي أشد وضوحاً في السنوات اللاحقة، فقد تسابق أبناء عبد الله بن سعود، ولا سيما تركي وصنيتان، على السلطة. وأقصي الأخير عن الإمارة، ومات عقيماً، فانحصر الحكم في بيت تركي بن عبد الله الذي أسس الدولة السعودية الثانية، بعدما قتل مشاري بن معمر، في عام 1821، وفرض نفسه حاكماً على نجد حتى عام 1830، حيث قتله ابن أخته مشاري بن عبد الرحمن. وكان مشاري بن معمر من أمراء آل معمر المؤيدين لدعوة ابن عبد الوهاب، وحكم نجد بعد سقوط حكم آل سعود، ثم قتل على يد تركي بن عبد الله، ما يشي بأن قواعد السياسة، وليس العقيدة، هي محرّك الصراع على السلطة.
تولى فيصل بن تركي الحكم بعد أبيه، وإليه ينتسب حكم آل سعود من خط عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة. وفيما خسر فيصل فرصته في احتكار السلطة، نجح عبد العزيز في فرض نفسه بقوة السلاح حاكماً مطلقاً بعد احتلاله الرياض، في عام 1902.
أدرك عبد العزيز أن عدة فروع من العائلة تصارعت على قيادة نجد والجزيرة العربية. ومن بين 14 تجربة حكم في الفترة ما بين 1744 و1891، نجحت ثلاث تجارب فقط، من بينها، في حسم النزاع على السلطة، حسب جوزيف كشيشيان. فيما شهدت بقية التجارب اغتيالات، وحرباً أهلية، وفي بعض الحالات ثورة سلمية.
بحسب طريقة الحسم المتبعة، فإن القوة الغاشمة وحدها أداة تسوية النزاع
رفض عبد العزيز محاولات أبناء عمومته، المعروفين بـ «العرايف»، لاستعادة خلافة جدهم سعود الكبير، في بدايات القرن العشرين، إمّا من خلال المعارك أو علاقات المصاهرة أو الاستمالات. وعندما عارضه أبناء عمّه، من فرع سعود الكبير، وكانوا مسؤولين عن انتفاضات خطيرة حصلت في قبيلتي العجمان والحساسنة في عام 1908، قام عبد العزيز بسحق ثورتهم. وفي جولة واحدة، جمع تسعة عشر قائداً من الأسرى في مدينة ليلى، وتقع على بعد 300 كلم جنوبي مدينة الرياض، وقام بتنفيذ إعدام علني مؤثّر. وبعد سقوط ثمانية عشر عنقاً بضربات السيوف، عفا عن المحكوم التاسع عشر، وأطلق سراحه ليذهب ويخبر بما رأته عيناه من انتقام ابن سعود. وأدّى هذا المثال الصارم إلى نشر نفوذ عبد العزيز بين زعماء القبائل الذين زادوا من دعمهم له، حسب هارولد أرمسترونغ في دراسته عن ابن سعود سنة 1934. يحضر هذا المشهد بكثافة في ضوء ما قام به حفيد ابن سعود، محمد بن سلمان في تصفية خصومه من الأمراء إما بالقتل (منصور بن مقرن، وسلطان بن تركي، وتركي بن بندر، وسعود سيف النصر)، أو بالاعتقال والتعذيب, كما حدث لعشرين أميراً في إطار حملة «الريتز»، في 4 تشرين الثاني 2017، أو بالمنع من السفر، وتجميد الحسابات البنكية، وفرض الإقامة الجبرية، وتلك إجراءات شملت المئات من الأمراء، بمن فيهم ولي العهد السابق محمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله، رئيس الحرس الوطني السابق، والوليد بن طلال رجل الأعمال ورئيس شركة «المملكة القابضة». وفي النتائج، لم يكن قطع الرقاب فعلاً طارئاً في سيرة آل سعود، وما اختلف هو أداة القطع، ففي الماضي ــــ زمن ابن سعود ــــ كانت بالسيف الأملح، وأصبحت بالمنشار، في زمن الحفيد.
بالعودة الى السياق التاريخي للدولة السعودية، تفرّد عبد العزيز بالحكم وأقام نظاماً فردياً أوتوقراطياً امتدّ نصف قرن، أي في الفترة ما بين 1902 و1953. ويا للصدفة! فحفيده، محمد بن سلمان، يتطلع لأن يحكم الجزيرة العربية بالطريقة الاحتكارية والدموية نفسها، ولمدة نصف قرن أيضاً، كما أفشى ذلك لمقدمة برنامج «60 دقيقة» الأميركي في قناة «سي بي إس»، في 19 آذار الماضي.
بالمقارنة بين الدولة السعودية الأولى والحالية، فإن عدد المنافسين على العرش تضاعف عشرات المرات. وبحسب طريقة الحسم المتبعة، فإن القوة الغاشمة وحدها أداة تسوية النزاع. ففي عهد محمد بن سعود، مؤسس السلالة السعودية، كان المنافسون لسلطته هم إخوته الثلاثة، بينما يقدّر، في الوقت الراهن، عدد أبناء عبد العزيز وأحفاده الذين يرون في أنفسهم ورثة شرعيين للعرش، بأكثر من 250 أميراً. وإلى ما قبل سنوات قليلة، لم يكن اسم محمد بن سلمان وارداً بين الأحفاد البارزين والمتسابقين للوصول إلى العرش. بل إنّ ابنين من أبناء الملك الحالي سلمان كانا أولى، من أخيهما الصغير محمد، بالارتقاء في مراتب الحكم. وهما عبد العزيز، وزير الدولة لشؤون الطاقة منذ نيسان 2017، وسلطان الذي يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.
كان الجد يهدف إلى تأسيس الكيان، والحفيد يهدف إلى إعادة تشكيله
ويعتبر العامل الخارجي عاملاً حاسماً في كل تجارب الصراع على السلطة داخل البيت السعودي. فكما قامت بريطانيا بدور محوري في حسم الخلاف بين عبد العزيز و«الاخوان» في معركة السبلة سنة 1929، فإنها ــــ بحسب وثائق سريّة أفرج عنها، في سنة 2017 ــــ قامت بدور مركزي في انقلاب القصر الذي أوصل فيصل إلى السلطة، وفي إقصاء أخيه الأكبر الملك سعود الذي حكم منذ سنة 1953. وبحلول عام 1958، تولى فيصل إدارة الحكومة، وبحلول عام 1963 استخدم موقعه ليصبح القوة المهيمنة في البلاد. وفي شهر ديسمبر من ذلك العام، أمر سعود بنشر قوات وآليات عسكرية خارج قصره في الرياض لإعادة تأكيد سلطته. واستمر التوتر مع القوات الموالية لفيصل إلى عام 1964، عندما طالب سعود بأن يقيل فيصل اثنين من وزرائه، وأن يستبدلهما بابنَي للملك. وهنا تدخلت بريطانيا لمصلحة فيصل عبر توفير الدعم الحاسم للحرس الوطني، وقوامه عشرون ألف عنصر. ويعتبر أفراد «الحرس الوطني» مسؤولين عن حماية النظام، والعائلة المالكة السعودية. وأطلق عليهم، في الماضي، أسماء؛ من بينها: «الجيش الأبيض»، و«الإخوان». وقد قادهم ابن سعود لتنفيذ حملاته العسكرية داخل الجزيرة العربية وخارجها. وكان «الحرس الوطني» يتلقى تدريبه من قبل بعثة عسكرية بريطانية صغيرة في البلاد، بناءً على طلب سعودي، في عام 1963. وقد قام مستشاران بريطانيان في الحرس الوطني، هما العميد تيمبرل والعقيد بروماج، بوضع خطط بشأن رغبة رئيس «الحرس الوطني» الأمير عبد الله (الملك لاحقاً) الصريحة في «حماية فيصل، والدفاع عن النظام، والسيطرة على بعض المواقع، ورفض بث أي بلاغات إذاعية، باستثناء المدعومة من الحرس الوطني». وقد ضمنت الخطط البريطانية الحماية الشخصية لفيصل، بهدف المساعدة في نقل السلطة إليه. ومن سوء طالع عبد الله، أن يكون «الحرس الوطني» ــــ وهو الأداة التي استعملها لتسهيل انتقال السلطة من سعود الى فيصل ــــ قد ارتد، بعد ذلك، ليتحول إلى أداة أقصت إبنه متعب عن السلطة، بعدما وضع ابن سلمان يده على هذه المؤسسة العسكرية المعروفة بولائها لعبد الله.
عكست التغييرات الجيواستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية نفسها على شبكة التحالفات السعودية. فبينما كانت بريطانيا تضطلع بمهمة رعاية ابن سعود، في المراحل الأولى من تأسيس دولته، أصبحت الولايات المتحدة، ولا سيما بعد لقاء عبد العزيز مع روزفلت، في سنة 1945، تتولى مهمة حماية النظام السعودي، وتدير ملفات الأمن والدفاع والاقتصاد والسياسة الخارجية. وتكشف وثائق الخارجية الأميركية، والمذكرات السريّة التي ترفعها لجان الشؤون الخارجية التابعة للكونغرس أن الإدارات الأميركية كانت تتدخل بصورة مباشرة في عملية انتقال السلطة، وخلافة العرش السعودي. وبحسب ما ورد في كتاب «نار وغضب» لمؤلفه مايكل وولف، فقد أدار الأميركيون نقل السلطة في عهد سلمان، الذي تولى العرش، في 23 كانون الثاني 2015. كما أنّ آل ترامب نسجوا علاقة وطيدة مع محمد بن سلمان، ولي العهد الحالي، فيما كانت أجهزة الأمن القومي والخارجية تميل الى محمد بن نايف، المنافس الرئيسي لابن سلمان. وفي نهاية المطاف، أدار جاريد كوشنر، صهر ترامب، انقلاب القصر على ابن نايف لمصلحة ابن سلمان.
وبالطريقة نفسها التي اتبعها فيصل بعد خلع سعود، حين قام بإبعاد كل أبنائه، على التوالي، عن السلطة، فدفع اليأس بعضهم إلى اللحاق بوالدهم إلى المنفى، فإن سلمان أبعد أبناء عبد الله عن السلطة أولاً، ثم اعتقلهم جميعاً في حملة مكافحة الفساد، في 4 تشرين الثاني 2017. ونجح عبد العزيز بن عبد الله في الهرب إلى الخارج، فيما لا يزال تركي بن عبد الله قيد الاحتجاز لرفضه الإفراج المشروط.
ما بين عبد العزيز ومحمد بن سلمان أكثر من مشترك، إن لناحية الجبهات التي فتحها الجد والحفيد، إذ كان الأول يهدف الى تأسيس الكيان، أما الثاني فيهدف إلى إعادة تشكيله. كما أنّ تصفية الخصوم داخل البيت الحاكم، وقمع الشريك الديني، وإضعاف البيوتات التجارية ورجال الأعمال عبر مقاصة وشراكة، وفرض الضرائب على المواطنين، وتشكيل سلطة مركزية صارمة لا تسمح بأي نوع من الشراكة أو التسويات الاجتماعية، وبناء أوتوقراطية صارمة يمسك فيها فرد بكل مقاليد السلطة، ويصبح هو المرجعية النهائية لشؤون الدولة كافة… وهذه هي بنود الخطة التي رسمها ابن سلمان لنفسه لإقامة دولة مركزية له، ولأبنائه من بعده.