هكذا نجا وقف النار في غزة

كان هذا هو الاسبوع الذي سجل فيه الصراع بين أبو مازن وسكان القطاع ذروة جديدة. فكتب التاريخ ستذكر له بالتأكيد هذه الايام. ايام تحفز فيها كي لا يتلقى قطاع غزة السولار الاسرائيلي، وإن كان مخصصا لأن يمنح السكان اربع ساعات اخرى من الكهرباء في اليوم.
مرة اخرى سنصف هنا اساس الدراما التي وقعت في الاسبوع الماضي من خلف الكواليس، وهددت بايقاع ضربة قاضية نهائية على وقف النار بين اسرائيل وحماس. قبل لحظة من انفجار كل شيء، نجحت الاطراف في ايجاد السبيل لارسال ناقلات السولار الى القطاع. وهكذا نفذت اسرائيل البند الاهم بالنسبة لحماس في التسوية، والزمتها بأن تكف عن العنف الكثير. ولكن بداية، لمن فاتته الفصول السابقة، هاكم خلاصة الحبكة.
في 15 آب، بعد اشهر من الاضطرابات الدموية على طول الحدود بين القطاع واسرائيل، نجح وسطاء الأمم المتحدة في جلب الطرفين الى تسوية. واتفق على البنود شفويا. حماس تلجم البالونات الحارقة، محاولات التسلل الى اسرائيل والعبوات الناسفة التي تلقى على الجنود. وبالمقابل، تعهدت اسرائيل بثلاثة بنود. توسيع مساحة الصيد امام شواطيء القطاع، اعادة فتح حاجز كرم سالم، الذي اغلق كخطوة عقابية قبل بضعة اسابيع من ذلك، والموافقة على ادخال السولار الى محطة توليد الطاقة في القطاع. البند الثالث كان هو الاهم. من خلاله، رأى قادة حماس انجازا يتمثل بالتخفيف من الاغلاق، وكذا وسيلة شرعية للتوجه الى الجمهور المتظاهر ليقولوا له: ايها الاصدقاء، توقفوا عن اللعب، حققنا شيئا ما من كل ما أردناه.
اتفق على أن تمول حكومة قطر السولار بالميزانية التي قدمتها على مدى نصف سنة. وهذه تسلم الى السلطة الفلسطينية التي تحولها الى موردي الطاقة من اسرائيل، الذين على اتصال معها لتوريد الوقود في الضفة. ينقل هؤلاء الموردون الكمية المتفق عليها الى القطاع عبر حاجز كرم سالم. وبلغ المخصص القطري عشرات ملايين الدولارات، ومع الكهرباء التي تضخ الآن في القطاع، تضمن الوقود ثماني ساعات من الكهرباء في اليوم. في هذه الاشهر الستة، كما اتفق، يبحث ذوو الامر في حلول دائمة لمشكلة الكهرباء.
لقد اوضحت اسرائيل للنشطاء من الأمم المتحدة بأنها لن تتمكن من تلقي المال مباشرة من القطريين، الدولة التي لا تزال لا تعترف رسميا بحقها في الوجود. اما الاتصالات السرية معهم فيمكن اخفاءها كيفما اتفق، ولكن بعد سنوات من الاتهامات لقطر بدعمها لحماس ستجد القدس صعوبة في أن تشرح للجمهور الاسرائيلي الغاضب لماذا تعقد الصفقات مع الدوحة. فتقرر أن ينقل القطريون المال عبر السلطة.

رهان حماس

انطلق وقف النار على الدرب، دون تصريحات كبرى ومع أمل طفيف بهدوء في الجنوب. حاجز كرم سالم فتح، وبعد ذلك وسعت مساحة الصيد. واجتهد الطرفان على ألا يتحدثا باصطلاح «وقف النار»، في حالة تفجر التسوية، وفضلا الاختباء خلف كلمات مغسولة مثل الاصطلاح المرقق «التفاهمات». في غضون بضعة ايام انكشف بالفعل الثقب الكبير. فقد اعلنت السلطة بأن وقف النار يحسن لحماس ويعزز قدرتها على الحكم في القطاع. على جثتي، قال أبو مازن، حين سئل اذا كان ينوي تلقي المال القطري وتحويله الى شركات السولار من اسرائيل. فتوقفت الناقلات، وفي حماس رأوا كيف أن هذا البند الاهم بالنسبة لهم لا يتحقق. وعلى مدى اسبوعين تابعوا الاحداث وانتظروا كي يروا اذا كان الوسطاء وحكومة اسرائيل سينجحون في الايفاء بوعدهم. وطوال هذا الوقت لم تكف الاطراف عن تبادل التهديدات. اسرائيل اعلنت أنه اذا واصلت حماس العنف فستفرض عليها عقوبات. وفي حماس قالوا إنه اذا «لم يرفع الحصار عن غزة»، فان هجمة البالونات ستزداد. ولكن السلطة واظبت على رفضها التعاون مع التسوية. في حماس اجروا تقويما سريعا للوضع فقرروا الرهان. اذا اطاعوا وقف النار، فلن ينتزعوا شيئا من اسرائيل. واذا عادوا للانقضاض على الحدود بنوبة غضب ـ سيجبرونها على البحث عن مسار التفافي لرام الله. وهكذا استؤنفت الاضطرابات رغم وقف النار.
لاسابيع طويلة واصلت الحدود الاشتعال. ولكن الاطراف لم تكف عن البحث عن مخرج. وفي النهاية تقرر أن تتلقى الأمم المتحدة المال وأن تنقله هي الى موردي الطاقة في اسرائيل. ولم يبلغ أبو مازن بشيء، حتى اللحظة الاخيرة. يوم الاربعاء الماضي، قبل بضع ساعات من الارسالية الاولى للسولار ودخولها الى غزة، علمت رام الله بالتسوية التي وقعت من وراء ظهرها. فعربد أبو مازن ورجاله غضبا وقرروا احباط الارساليات. فقد حدد حسين الشيخ، رجل الارتباط باسرائيل في المجال المدني، المورد الاسرائيلي بأنه اذا تجرأ على ارسال الناقلات، فستلغى العقود التي وقعت معه في المناطق. كما اتصل الشيخ بشركة الكهرباء في غزة وحذر من أنه اذا تجرأت على استيعاب الناقلات فستجمد السلطة مزيدا من الميزانيات التي تخصص كل شهر لصندوق المالية في القطاع.
لاسبوع كامل ممزق للاعصاب استمرت حملة تهديدات السلطة. فقد عرفوا في رام الله بأن الموردين الاسرائيليين هم الحلقة الضعيفة، فشددوا عليهم الضغط. وفي مكتب رئيس الوزراء في القدس نظروا بدهشة الى المعركة التي تخوضها السلطة. لقد كانت هذه لحظة غير مسبوقة، يهدد فيها كيان اجنبي شركة اسرائيلية، بينما يتخندق الجسمان العسكريان ـ الجيش الاسرائيلي وحماس ـ في مواقعهما وينتظران بتوتر النتائج. كان واضحا للجميع بأنه اذا لم تبدأ الناقلات بالدخول الى القطاع، فان الطرفين سيسيران نحو صدام حاد.

النكتة على حسابنا

يوم الخميس الماضي قالت مصادر في مكتب نتنياهو لموردي السولار إن الدولة ستعوضهم اذا نفذت السلطة تهديداتها وعاقبتهم بالغاء العقود. وهكذا تحركت الصفقة الى الامام. ويوم الاثنين وصلت الارسالية الاولى الى حاجز كرم سالم. ولكن السلطة اذ رأت انها فشلت في مهمتها، واصلت الصراع. هدد رجالها شركات النقل الغزية من مغبة نقل الناقلات من الحاجز الى محطة توليد الطاقة في وسط القطاع. اما في حماس بالمقابل، فشعروا بارتياح شديد. «السلام مقابل السولار»، كتب المتصفح الغزي منذر مهنى على الفيس بوك. وتمازح مجهولون على حساب الشيخ محمود الهباش، رئيس المحكمة الشرعية واحد المقربين من أبو مازن. فقد عزوا له فتوى تقول إن الصلاة على ضوء الكهرباء التي تأتي من السولار القطري محظورة من ناحية شرعية.
في هذه القصة يوجد الكثير من كل شيء. وبالاساس التعقيدات. ابو مازن، الصديق الامني لاسرائيل، اصبح الرجل الشرير. وحماس، عدوها اللدود، تحولت لتصبح الفتاة الهشة والمحتاجة. اجرت حكومة اسرائيل اتصالات مع حماس كي تحل مشكلة عاجلة لهما. ومع أن هذه قام بها وسطاء إلا أنها كانت مفاوضات بكل معنى الكلمة. اما مع الدوحة بالمقابل، فقد اجريت اتصالات مباشرة. فهل اثبتت اسرائيل بأنها لا تفهم إلا لغة القوة؟ على هذا السؤال فكر من فكر بالاحجية إياها، بالفارق بين الحكيم والذكي. فالذكي يعرف كيف ينقذ نفسه من اوضاع حرجة لا يدخلها الحكيم مسبقا. لقد حشرت اسرائيل في الزاوية ومنحت غزة مساحة. ولكنها لم تدفع في النهاية شيئا. التمويل كان اجنبيا، المداخيل تضخ الى الاقتصاد الاسرائيلي، والمقابل المحتمل، الهدوء على الحدود، حيوي.
على قطر يمكن ان يسكب الكثير من النقد والغضب. ولكن فقط هي من بين كل الدول العربية وافقت على توقيع الشيكات. وأبو مازن؟ من بين عصبة الدول المشاركة في الحصار على غزة، ليس مؤكدا بأنه اكثرها حدة. حماس هي الحركة التي نفذت الانقلاب ضد السلطة، تمردت عليها، ولا تخضع لامرتها. زعيم السلطة ينظر لعقد الى الامام. اذا تم تخليد هذا الواقع فيحتمل أن تحل النهاية على حلم الفلسطينيين بدولة موحدة.

جاكي خوجي
معاريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *