لا شكّ أنّ لبنان الرسمي، ممثلاً بوزارة الخارجية والمغتربين خصوصاً، “استنفر” بعد التهديدات الإسرائيلية للبنان، انطلاقاً من المزاعم التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من على منبر الأمم المتحدة عن وجود موقع لـ”حزب الله” متاخم لمطار بيروت يحتوي على مخازن أسلحة وصواريخ.
قبل أن تمرّ دقائق على كلام نتانياهو، ردّ وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل، متهماً إسرائيل بـ”اختلاق الذرائع لتبرير العدوان”، قبل أن يردّ رسمياً بعد عودته إلى لبنان من خلال جولة إلى المواقع الصاروخية “المفترضة” دعا إليها السفراء المعتمدين في لبنان وممثلي البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، في سابقة دبلوماسية من نوعها.
لكن، مقابل ردّ وزير الخارجية، وبعده رئيس الجمهورية ميشال عون، غاب المعنيّ الأول بالمزاعم عن السمع، إذ لم يصدر أيّ تعليق من “حزب الله”، فيما كان الإسرائيليون يرفعون سقف التحدي أكثر وأكثر، من خلال “تغريدات” متواصلة ومستفزّة للناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي. فلماذا التزم الحزب الصمت المطبق؟ وهل يخرج عنه قريباً؟.
حرب نفسيّة
بمعزلٍ عن الأهداف الحقيقية التي تقف خلف المزاعم الإسرائيلية، بين من قال إنّها تمهّد لعملٍ عسكري معيّن، ومن اعتبرها استهدافاً لمطار بيروت الدولي، وبالتالي تحريضاً على مقاطعته، ومن رأى فيها حلقة من مسلسل الضغوط المتصاعدة على لبنان والمنطقة ككلّ في هذه المرحلة، ربطاً بتسخين مختلف الجبهات، فإنّ الأكيد أنّ الاستهداف هو للبنان ككلّ، خصوصاً أنّ الكلام لم يعد فقط عن ترسانة “حزب الله” الصاروخية كما درجت العادة، بل ذهب إلى الحديث عن موقعٍ حسّاس تُخزَّن فيها.
وإذا كان الإسرائيليون وسّعوا دائرة الاستهداف، فإنّ “حزب الله” في المقابل لم يغيّر عادته، مكتفياً بالصمت وعدم التعليق، لا لنفي المزاعم الإسرائيلية، ولا للتحذير من النوايا المبيتة خلفها، في سياسة يقول العارفون إنّها تندرج في إطار “الحرب النفسية” التي يخوضها “حزب الله” مع الإسرائيليين منذ فترة ليست بقصيرة، وتحديداً منذ الصراع العسكري المباشر الأخير بينهما في العام 2006، والذي أدى إلى ولادة معادلات جديدة، أو ما يُعرَف بـ “توازن الردع” الذي لا يزال يتحكم بالأمور، وإن كانت العديد من محطات الحرب السورية حفلت بالمواجهات المباشرة وغير المباشرة بين الجانبين، على أكثر من صعيد.
من هنا، يرفض “حزب الله” إعطاء نتانياهو ما يريده من خلال الانجرار إلى سجالٍ معه، قد لا يكون الهدف منه سوى الحصول على معلومات عن قدرات “حزب الله”، خصوصاً بعد الكلام الأخير للأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في ذكرى عاشوراء، والذي قال فيه صراحة إنّ “الحزب بات يمتلك إمكانيات تسليحية وصواريخ دقيقة”، وهو ما يبدو أنّ الإسرائيلي غير مشكّك به، ولكنّه يسعى لمعرفة المزيد من التفاصيل عنه، وتحديداً عن مواقع هذه الصواريخ.
ولعلّ ما يزيد الحزب تشبّثاً بصمته، كما يؤكد بعض الدائرين في فلكه، وجود قناعة ثابتة لديه بأنّ المزاعم والتهديدات المستجدّة هي لدواعي البروباغندا الإعلامية ولا ترجمة عسكرية متوقّعة لها، باعتبار أنه لو كان لدى إسرائيل معلومات جديّة ودقيقة عن مواقع الصواريخ، لعمدت إلى قصفها مباشرة بدل الذهاب إلى الأمم المتحدة للكشف عنها، في مسار لا ينسجم بتاتاً مع تاريخها وعدم اكتراثها بالقرارات الدولية، وهي التي تخرق كل يوم السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً من دون أن يسائلها أو يحاسبها أحد.
ارتياح وتقدير
لكن، أبعد من “الحرب النفسية” مع الإسرائيلي التي راكم “حزب الله” خبرات على خطها على مدى الأعوام الماضية، لا شكّ أنّ عوامل أخرى، داخلية بالدرجة الأولى، لعبت دوراً أساسياً في صمت “حزب الله”، باعتبار أنّ السلطة السياسية “كفّت ووفّت” كما يُقال، من خلال الردّ على الإسرائيلي ودحض مزاعمه، علماً أنّ أيّ موقفٍ مغايرٍ للسلطة كان يمكن أن يفرض مقاربة مختلفة على الحزب، نظراً لحساسيّة القضية.
وعلى الرغم ممّا قيل عن “عدم استساغة” الحزب الردّ على المزاعم الإسرائيلية وتضخيمها بالشكل الذي حصل، خصوصاً أنّ “السابقة” التي حصلت على أهميتها من الناحية الدبلوماسية، قد تشكّل انجراراً خلف الإسرائيلي بحيث يتمّ الكشف عن كلّ موقع يشتبه في أنه عائد للمقاومة، يتحدث كثيرون عن “تقدير” من الحزب لما قام به باسيل الذي تحوّل إلى “هدف مباشر” للانتقادات الإسرائيلية، خصوصاً أنّه تصرّف بوصفه وزير خارجية لبنان، وبالتالي باسم الحكومة اللبنانية مجتمعةً، وأظهر التفافها ليس حول الحزب، بل حول الحقوق اللبنانية، وصدّ أيّ محاولة لتأليب الحكومة والرأي العام اللبناني على الحزب، وفقاً للذريعة المعتادة، أي تعريض المصالح اللبنانية للخطر.
ولا يقف ارتياح “حزب الله” عند حدود موقف باسيل وحده، وقبله وبعده مواقف رئيس الجمهورية الواضحة جداً إزاء الصراع مع إسرائيل، بل يتّسع ليشمل مختلف الفرقاء، حتى من خصوم الحزب التاريخيين، الذين إن لم يصدر بعضهم مواقف صريحة وواضحة، فإنّهم على الأقلّ لم يغرّدوا خارج السرب المندّد بالتهديدات بالحدّ الأدنى. وفي هذا السياق، كان لافتاً شبه الإجماع على تأييد باسيل ودعمه في خطوته، وهو إجماعٌ تخطى الحساسيّات الداخلية هنا وهناك، فشمل “المردة” و”الكتائب” وحتى “المستقبل” و”القوات” وغيرهم، ولو انتقد البعض أداء بعض الإعلام المحسوب على قوى معينة، والذي تماهى مع التهديدات الإسرائيلية، بيد أنه لم ينعكس على المستوى السياسي.
أبعد من الاستنفار
“استنفر” اللبنانيون رداً على المزاعم الإسرائيلية، التي قرأ فيها البعض تمهيداً لعدوان آخر على لبنان، فيما اعتبرها البعض الآخر استهدافاً إعلامياً يخبئ نوايا سياسية مبيتة.
من رئيس الجمهورية إلى وزير الخارجية، مروراً بحلفائهما وخصومهما، كان إجماعٌ على رفض التهديدات الإسرائيلية غير المبنيّة على وقائع ومعطيات ملموسة، ما أظهر “وحدة وطنية” اعتقد كثيرون أنّها ولّت.
لكن أبعد من الاستنفار، يتطلب الردّ الفعليّ على أيّ تهديد أو حتى اعتداء إسرائيلي الكثير، من تحصين هذه الوحدة، أولاً وقبل كلّ شيء من خلال الإسراع في تأليف حكومة بعيداً عن المحاصصات، لأنّ حكومة تصريف الأعمال لن تكون سلاحاً فعّالاً في أيّ مواجهة…النشرة