الشهيد عصمت مراد
الشهيد الدكتور عصمت عبد الكريم مراد رحمه الله تعالى “1949 – 1984م”
نسخة للطباعةهو عصمت عبد الكريم مراد ولد عام 1949 في قرية العيون في عكار شمال لبنان ،والده السيد عبد الكريم مراد وكان رجلا من عامة الناس يعمل سائق أجرة
انتقل عصمت مع العائلة إلى مدينة الميناء في طرابلس عام 1956 وهناك انتسب إلى مدرسة الميناء التهذيبية الرسمية للبنين ونال فيها شهادته المتوسطة ثم أكمل دراسته الثانوية في ثانوية الميناء الرسمية للصبيان حيث تخرج منها حاملا الشهادة الثانوية فرع علوم الأحياء عام 1965م.
في مطلع ذلك العام كانت انطلاقة الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية حيث أعلنت حركة فتح انطلاقتها وانعكس ذلك على مجمل المنطقة التي كانت تشهد مرحلة مخاض خصوصا مع بروز الناصرية والفكر القومي العربي، وقد دفعه الحس الوطني والعروبي لممارسة نشاطه السياسي ضمن حركة القوميين العرب وأكسبه ذلك وعيا سياسيا مبكرا.
غادر عام 1966م. إلى فرنسا لمتابعة دراسته فانتسب الى كلية الطب في جامعة تولوز وكان في حينه يعتمد على والده في تحمل العبء المادي إلى جانب عمله في بعض المطاعم وغيرها من الأعمال ليخفف التكاليف عن عائلته ذات الدخل المحدود .
في فرنسا تحول إلى العمل اليساري وازدادت حدة مع هزيمة 1967م. يوم حدثت النكبة بانهيار الجيوش العربية في سويعات أمام العداون الهمجي الصهيوني .
أسس أثناء دراسته في فرنسا اتحاد الخلايا اليسارية الذي ساهم في توضيح الصورة عن القضية الفلسطينية أمام الشعب الفرنسي وأقام نشاطات واسعة في كل الجامعات للتعريف بالشعب الفلسطيني وقضيته .
وتدرج في العمل السياسي فأصبح رئيسا لاتحاد الطلبة اللبنانيين والعرب في تولوز ثم بعد ذلك الأمين العام لاتحاد الطلبة اللبنانيين والعرب في فرنسا .
كان الدكتور عصمت مراد منذ بداياته في العمل السياسي مسكونا بهاجس القضية الفلسطينية وثورة الشعب الفلسطيني الجريح,فما لبث أن انضم إلى الثورة الفلسطينية فقد وجد فيها بديلا نضاليا للأنظمة الرسمية المتهاوية وللفكر اليساري النظري .
فانتظم في حركة فتح وأسس مجموعات العمل العربية مع مجموعة من رفاقه من اللبنانيين وغيرهم وكانت مجموعة فاعلة وداعمة للكفاح الفلسطيني في لبنان.
وكان ذلك نواة ما عرف “بالكتيبة الطلابية “لحركة فتح والتي كانت تضم جامعيين من مختلف الدول العربية وكان لها دور في العمليات الفدائية ضد العدو الصهيوني بعد ذلك في جنوب لبنان وبعض الدول العربية .
ثم بعد ذلك أصبح الشهيد عصمت الامين العام لحركة لبنان العربي التي كانت حركة لبنانية عروبية مستقلة مع ارتباطها العضوي والتنظيمي بحركة التحرير الوطني الفلسطيني –فتح-.
كانت الحركة الجديدة ترى أن فلسطين وقضيتها هي القضية الوحيدة الجامعة للعرب ,وهي طريق الوحدة العربية,والتزامها هو السبيل للخروج من حالة التشرذم والقطرية السائدة.
انتشرت حركة لبنان العربي في المناطق اللبنانية وأصبح لها فروع عدة في أكثر من منطقة وساهمت في المواجهات المباشرة مع العدو الصهيوني وسقط لها زهاء 32 شهيدا من مختلف المناطق اللبنانية.
تخرج طبيبا عام 1972 وعاد من فوره الى لبنان ليبدأ ممارسة مهنة الطب في مستشفى الدكتور هاشم الحسيني نائب طرابلس الأسبق.
وما لبث في العام 1975م.أن انخرط في اتحاد الشبيبة الوطنية التي كانت منطلقا لعمل نضالي جديد ولكنه سرعان ما وجد ائتلافا أنتج حركة لبنان العربي التي صارت بعد ذلك واحدة من الأجنحة التي اندمجت وتأسست منها حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس.
كان الشهيد عصمت لا يرى عائقا في ممارسته لمهنته كطبيب وعمله النضالي فكان كثيرا ما يخلط بين الأمرين ,فقلما يحضر لمعالجة مريض إلا ويستغل اللقاء بالدعوة لفكره السياسي الذي يؤمن به .
وفي سنة 1977م. انطلق إلى الجنوب للتعرف على المزيد من الشبان من كل الأطراف ليشكل مشروعا جامعا واسع يصهر القدرات والطاقات في بوتقة تنظيمية واحدة تشكل رأس حربة لمواجهة المشروع الصهيوني التوسعي.
ومع انخراطه في صفوف المقاومة الفلسطينية للدفاع عن عروبة لبنان شكل فرقة عسكرية سميت آنذاك بـ”سرية بنت جبيل ” التي شاركت في مواجهة الاجتياح الصهيوني وسقط عدد من عناصر السرية شهداء .
بداية العودة إلى الإسلام :
في الفترة ما بين 1977 – 1979 م. أجرى الدكتور عصمت مراد ومن معه في حركة لبنان العربي مراجعات فكرية باحثا عن مشروع يقدم ولا يؤخر يوحد ولا يفرق ويكون جذريا في صراعه مع الصهيونية فاستشرف أن مستقبل هذه الأمة هو بالإسلام فكرا وجهادا .
وبدأت أكثر المنتديات السياسية تناقش للمرة الأولى الإسلام كمشروع حل سياسي بعدما كان الأمر غير قابل للنقاش على اعتبار أن الدين أفيون الشعوب
بل كان الشك يطال الإسلام كدين في قدرته على قيادة المجتمع الحديث بمفاهيم كانت في اعتبار الكثيرين قد تخطاها الزمن ولا تصلح لقيام مجتمع قائم على مفاهيم الحداثة والتطور الجتماعي والسياسي والاقتصادي,وبدأت كنب العلوم السياسية والاجتماع والاقتصاد تناقش الإسلام كمجموعة متكاملة من النظم تصلح لقيادة البشرية نحو الحل المنشود .
كان الدكتور رحمه الله من أوائل العناصر التي بدات هذا النقاش في الساحة اللبنانية وضمن المجموعات التي كانت محسوبة على الفكر اليساري من خلال طرح مفهوم ومشروع الإسلام الجامع لتوحيد عناصر الأمة المشتتة والمتفرقة.
في هذه الأثناء تحركت الأوضاع في إيران الشاهنشاهية وأحد انتصار الثورة الإسلامية في إيران صدمة إيجابية في المنطقة العربية والإسلامية وبدأ للمرة الأولى يطرح الإسلام كمشروع دولة وتأسيس لقيام مجتمع إسلامي وليس فقط كفكرة ,فالنظرية التي عاشت لعقود في الاذهان كحلم ومشروع مستقبلي منذ سقوط الخلافة الإسلامية مع عزل السلطان عبدالحميد رحمه الله,بدأت ترى لها نموذجا حقيقيا يجد له موطأ قدم في عالم السياسة والواقع .
عام 1979. سقط النظام البهلوي وقامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأعلنت إيران للملأ يومها وقوفها إلى جانب القضية الفلسطينية وقدمت في ذلك الكثير .
خاض الدكتور عصمت سنة 1980م. نقاشا مع القيادات الإسلامية من أجل مشروع إسلامي واحد نواته الشيخ سعيد شعبان والشيخ أحمد الزين والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين
ولما كان الشيخ سعيد شعبان رحمه الله مقدما في مدينته خطيبا ومجاهدا ومناصرا للثورة الفلسطينية ولطالما ارتاد مخيمات البداوي والبارد في الشمال وشاركهم كفاحهم المسلح إعدادا ورباطا فكان مع آخرين محط أنظار كل الباحثين عن الإسلامي العملي والتطبيقي لا النظري.
فكان لا بد لكل باحث عن درب الجهاد والمقاومة ومقارعة الظلم والظالمين أن يقوده بحثه إلى الشيخ سعيد شعبان ومسجد التوبة فالتقى مراد مع الشيخ سعيد ولطالما كانوا يلتقيان لساعات وساعات بعيد الفجر وبعد العشاء في جلسات نقاش في مسجد التوبة أو في مدرسة الرسالة الإسلامية في أبي سمراء أو في منزل الشيخ سعيد وكان مشروع حركة إسلامية يدرس وبعناية ويبحث بعمق وجذرت تلك اللقاءات العلاقة فيما بين الشيخ والدكتور فصارت العلاقة علاقة عضوية حميمة حتى قبيل حركة التوحيد الإسلامي .
كان الشيخ سعيد شعبان يحب الدكتور عصمت رحمهما الله وكان يأنس لصوابية رأيه لا تعصبا له وإنما لتجربته وتسفاره ونضاله وعلاقاته وعلمه وهو الطبيب الحاذق العارف .
وأنتج بعد ذلك فكر الشيخ سعيد وحيوية الدكتور عصمت، الذي كان لا يكل ولا يمل ويصل الليل بالنهار وجهد المخلصين الآخرين وكل تلك الكوكبة التي كانت من الإخلاص والهمة بمكان ، حركة إسلامية كان لها بالغ الأثر في لبنان بل والعالم فقد أنتج أول إمارة إسلامية على شاطئ المتوسط بعد انهيار السلطة العثمانية في بدايات القرن العشرين .
واستمرت اللقاءات والحوارات مع خليل عكاوي أبو عربي ومع دخول الجيش السوري في إطار قوات الردع العربية كانت المواجهات شبه دائمة بين بعل محسن وباب التبانة
وكان الدكتور عصمت يعتبر أن كل هذه الاشتباكات ما هي إلا لإشغال الأطراف عن الصراع الحقيقي مع العدو الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وكان دائم العدوان على لبنان.
بينما كان يرى الآخرون أن حسم معركة الداخل وتوحيده هو المنطلق صوب فلسطين وأن تلك دوامة لا تنتهي فالعدو يمتلك من المكر ما يكفي لإشغال الأمة لعقود وعقود في الصراعات الداخلية عرقيا ومذهبيا وطبقيا ومناطقيا ، فلا بد من التوجه صوب راس الكفر إسرائيل .
وكان لتلك الجهود الأثر الواضح في تخفيف جذوة الفتنة الداخلية فلقد كان الشيخ سعيد رحمه الله يشترط لقبول الانخراط بعمل تنظيمي وقف كل الصراعات الداخلية وتوجيه البندقية صوب عدو الأمة الواحد إسرائيل وقد احتلت يومها بيروت ثاني عاصمة عربية بعد القدس الشريف
وأفلح الدكتور عصمت والشيخ سعيد يومها في صناعة تغيير في فكر المقاومة الشعبية وكانت يومها خطوة جبارة ونقطة تحول ملفتة
وأثمرت جهود الحوار المتعددة بالإعلان عن قيام حركة التوحيد الإسلامي في صيف 1982م.
ثقافته الدينية و الإسلامية
كان الدكتور الشهيد يرى ما جاء في المقولة المعروفة “خذ الحكمة لا يضرك من أي وعاء خرجت ” والحديث :” الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ” فكان برأيه أن الإسلام دين يجمع و لا يفرق يوحد و لا يقسم , وأن كل المذاهب على اختلافاتها يجب أن تتكامل فيما بينها لتصنع مشروعا نهضويا يعيد الأمة إلى مكانتها اللائقة.
معتقدا على الدوام أن حصر الذات والفكر في مذهب واحد ورأي واحد يغلق الباب أما الفكر الإسلامي ويحد من القدرة على التطوير والاجتهاد
فكان يقرأ لكل الإسلاميين ومفكريهم بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والمذهبية أكانوا سنة أم شيعة , سلفيين أم خلفيين , متكلمين أم أصحاب حديث , فكان يقرأ على سبيل المثال لا الحصر كتابات سيد قطب والإمام الشهيد حسن البنا , والشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي , وسعيد حوى والأستاذ مصطفى السباعي , والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين , والدكتور علي شريعتي , وكتب الفقه والتراث الإسلامي كتفسير الطبري وابن كثير , وتفسير الطبطبائي وغيرها من كتب الفقه والتفسير والحديث, على أنه كان أشد تأثراً بكتابات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله , وكان أكثر قراءاته في القرآن الكريم حيث يذكر شقيقه بأنه قد أتمه قراءةً مرات عدة وحفظ الكثير من أجزائه
كان الدكتور الشهيد يرفض منطق المواجهة العسكرية بين الطوائف والمجموعات الدينية والسياسية في لبنان , وكان يلح ويطالب دائما بضرورة الانفتاح على الجميع , حتى المارونية السياسية التي كان يرى ضرورة جرها من مستنقع العمالة مع العدو الصهيوني الى موقع الوطنية والعروبة
وإن كان في الوقت ذاته يرى ضرورة مواجهة هذه القوى ولو بقوة السلاح عندما تصر على خط التعامل والتآمر مع أعداء الأمة الإسلامية , فهو في وجهة نظره هذه يتأسى بالرسول الكريم صلى الله عليه و سلم الذي بعث رحمة للعالمين فيسالم من سالم الإسلام والمسلمين ويدافع في وجه من يعتدي ويحارب الأمة , فهو أولا داعية إلى الله تعالى ليخرج الناس من الظلمات الى النور والدعوة إلى الله تقتضي دعوة العدو قبل الصديق ,لكن من عادى الإسلام وأصر على معاداته وتآمره فلا بد من استعمال الغلظة والقوة معه.
أما التعامل بين المسلمين المختلفين في الفقه والعقائد والمناهج الفكرية فكان رحمه الله تعالى يرى دائما ضرورة تغليب الحوار عن المواجهة بما يحفظ للأمة وحدتها,فكانت الوحدة وضرورة التآلف والحوار بين أبناء الدين الواحد والصف الواحد,هاجسا ملك عليه حياته وفكره وسلوكياته,فكان يرى ضرورة الابتعاد عن كل المشاريع التي تؤدي إلى التجزئة وأن أي صراع مع المجموعات الغير مرتبطة مباشرة بالمشروع الصهيوني , وأن الوقوع في ذلك لا يعدو كونه عملية إلهاء عن مواجهة العدو الأساسي,إسرائيل ومن يتحالف معها مباشرة من اليمين اللبناني المتصهين وغيرهم.
كتاباته وتراثه الفكري
كان للدكتور الشهيد بعض الكتابات والدراسات الإسلامية والتنظيمية ,لكنها فقدت نتيجة للمداهمات والمصادرات التي طالت منزله لمرات عديدة بعد استشهاده من قبل عناصر المخابرات والأجهزة الأمنية في حينه.
علاقاته بالقيادات والتيارات الإسلامية
كان الشهيد عصمت مراد قدوة في التفاني في سبيل معتقداته وإيمانه وفكره وطاقة لا تهدأ في السعي لانجاز حلمه في قيام مشروع إسلامي يجمع الجميع يستظلون تحت مظلته
وكان يمتلك شخصية حوارية مقنعة فذة ومما قاله عنه الرئيس سليم الحص”لقد تأثرت في حياتي بشخصيات كثيرة من أهمها الدكتور عصمت مراد رحمه الله “.
لم يكن الدكتور عصمت يحبذ المرافقة الأمنية لنفسه وكان يستعيض عنها وهو المستهدف عدة مرات بمحاولات اغتيال بالتمويه وتبديل السيارات وإخفاء مواعيد لقاءاته وزياراته .
لكن ذلك لم يكن كافيا في إخفاء شخصية مؤثرة فاعلة كثيرة الحركة فأدرك الحاقدون أنه مفصل مهم من مفاصل العمل الإسلامي فأضمروا له الشر وقرروا أن يبعدوه عن ميدان الدعوة والجهاد .
وهكذا استشهد الدكتور الشهيد عصمت مراد في كمين مسلح نُصِبَ له في نهاية طريق المئتين قرب محطة القطار وأمطره القتلة والمجرمون بوابل من الرصاص وكان وحيدا في سيارته في طرابلس دون أي مرافقة أو حراسة مسلحة وذلك في 2-8-1984م .
غفر الله للدكتور الشهيد عصمت مراد وادخله فسيح جنانه وحشره في زمرة الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين
خاص التوحيد